آيات وأحاديث في الطب والتداوي تُشكل على البعض
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
✦ " أنتم أدرى بأمر دنياكم " هل يشمل أحاديث التداوي ؟
✦ هل التزم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون رحمهم الله بالأدوية التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها أم كانوا يأخذون برأي أطباء زمانهم ؟
✦ لماذا تكلم النبي ﷺ في الطب والتداوي ، ولم يكن الطب والتداوي مغزى رسالته الشريفة ؟
✦ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخمر داء ، فكيف نتعامل مع بعض الدراسات التي تقترح أنه مفيد صحياً ؟
✦ العسل : كيف يكون شفاءً وهو لا يناسب بعض الأمراض كالسكري ؟
✦ ما العمل عندما يتعارض نصٌ من القرآن أو السنة مع معلومة طبية ؟
✦ إذا اختص الله بعلم ما في الأرحام فكيف استطاع الأطباء معرفة جنس الجنين ومرضه الوراثي ؟
✦ "العين حق" كيف نتعامل مع هذا الحديث الشريف ، وليس للعين ذكر في مصادر الطب الحديث ؟
✦ بعض المرضى يدعون الله دعاءً صادقاً مع الضراعة والاضطرار، ولا يُشفون ! كيف وقد وعدهم الله بالإجابة ؟
✦ الأحاديث المشتملة على الأدعية والرقية الشرعية فيها وعد بالشفاء ، فلماذا لا يُشفى بعض المرضى مع الرقية ؟
⬌⬌
" أنتم أدرى بأمر دنياكم " هل يشمل أحاديث التداوي ؟
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال : مَرَرْتُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بقَوْمٍ علَى رُؤُوسِ النَّخْلِ، فَقالَ: ما يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ فَقالوا: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ في الأُنْثَى فتَلْقَحُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ما أَظُنُّ يُغْنِي ذلكَ شيئًا، قالَ: فَأُخْبِرُوا بذلكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بذلكَ فَقالَ: إنْ كانَ يَنْفَعُهُمْ ذلكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فإنِّي إنَّما ظَنَنْتُ ظَنًّا، فلا تُؤَاخِذُونِي بالظَّنِّ، وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شيئًا، فَخُذُوا به، فإنِّي لَنْ أَكْذِبَ علَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. رواه مسلم
وفي رواية عند الإمام مسلم أيضاً قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ.
وفي رواية عند الإمام أحمد ؛ قال : إنما هو ظَنٌّ ظنَنتُهُ، إنْ كان يُغني شَيئًا فاصنَعوا؛ فإنَّما أنا بَشَرٌ مِثلُكم، والظَّنُّ يُخطئُ ويُصيبُ .
والمعنى: يُشقِّقون طَلعَ الإِناثِ من النخيل ويَذَرونَ فيه طَلعَ الذَّكَرِ ليَجيءَ ثَمرُه جيِّدًا، فَقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أَظنُّ يُغني ذلكَ شيئًا، أي: ما أَظُنُّ أنَّ ذلكَ العملَ، يُغني عنْ قَدْرِ اللهِ شيئًا إذا أَراد عَدمَ صَلاحِه؛ فبلغهم كلامه صلى الله عليه وسلم فتَركوا التلقيح؛ فبلغه صلى الله عليه وسلم أنهم تركوا التلقيح، فَقال: إنْ كانَ يَنفَعُهم ذلكَ فَلْيَصنَعوه، أي: لا يَترُكوه من أجل ظَنِّي؛ فإنِّي إنَّما ظَننْتُ ظنًّا لا جزماً، فَلا تُؤاخِذوني بالظَّنِّ، أي: لا تُحاسِبوني على ظَنِّي في أمرِ الدُّنيا ومَعايشِها، ولكن إِذا حدَّثتُكم عنِ اللهِ شيئًا فخُذوا بِه؛ فإِنِّي لن أَكذِبَ على اللهِ عزَّ وجلَّ. (يُنظر موقع الدرر السنية)
كلام النبي صلى الله عليه وسلم في قصة تلقيح النخل كان ظناً بشرياً بحتاً ، ليس وحياً ولا تشريعاً ولا فتوىً ولا أمراً ولا نهياً ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمرهم ولم ينههم ، كل ما في الأمر أنه أطلع من معه على ظنه بعدم جدوى الأسباب إذا لم يُقدِّر الله حصول المطلوب ، فعلم أصحاب النخيل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وتركوا التلقيح ، ثم أفادهم أنهم أعلم بزراعتهم التي تمرسوا عليها من ظنِّه الذي ظنَّه بشأنها. هذا الحديث جاء بعدة روايات وهي قصة واحدة فينبغي حمل جميع الروايات على الروايات المذكورة أعلاه وتفسيرها بها .
اختلف الزبير بن العوام ورجل أنصاري على مقدار سقيا الماء إلى زرعهما ، وترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يقل لهما : أنتم أدرى بأمر الزراعة وتصريف الماء ، بل أرشدهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى طريقة فيها سعة وخير للإثنين ، فاعترض الأنصاري بأن النبي عليه الصلاة والسلام يحابي الزبير لأنه ابن عمته !، فتلوّن وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضباً وقضى للزبير بحقه الذي يستحقه من الماء كاملاً وهو أكثر من إرشاده السابق ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ الْآيَةَ (القصة رواها البخاري وغيره) ، فهذه القصة فيها قضاء وأمر نبوي تشريعي مُلزم مع أنها متصلة بالزراعة والسقيا .
التفريق بين كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يُعتبر تشريعاً والذي يُعتبر ظناً بشرياً ؛ له أصول فقهية يتناولها علماء الشريعة الراسخون ، ومن اجترأ على هذا الموضوع من المثقفين الذين لم يتخصصوا في الشريعة فقد ظلم نفسه .
وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى هي إبلاغ الرسالة والعناية بأمر الدين والدار الآخرة ، وحفظ المال والعرض والبدن والعقل (تسمى الكليات الخمس) ، وإنقاذ البشرية من فساد تلك الكليات بسبب الكفر والشرك والإلحاد والفواحش والظلم والعدوان على الأنفس والأعراض والأموال ، وكذلك منع الوسائل الموصلة إلى ذلك الفساد ، فجاءت الأحاديث الشريفة المُحْكَمَة المتعلقة بالأسرة والأخلاق والتعاملات التجارية والسياسة الشرعية وعلاقات الأقارب والجيران والقضاء والعقوبات والحدود الشرعية وغيرها .
فرح أهل الأهواء بحديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) فضربوا به تلك الأحاديث الشريفة المُحْكَمَة واستباحوا المحرمات في التجارة والصناعة والطب والحياة الأسرية وكافة شئون الحياة ، ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ ﴾ [آل عمران ٧] أي : فأصحاب القلوب المريضة الزائغة، لسوء قصدهم يتبعون المتشابهات ويتركون المحكمات الواضحات ؛ ليثيروا الشبهات عند الناس ويضلوهم، ولتأويل النصوص المتشابهة التي تحتمل عدة معاني على مذاهبهم الباطلة .
الأحاديث الشريفة في الطب والتداوي
إذا كان كلامه عليه الصلاة والسلام خبراً جازماً كإخباره عن الحبة السوداء أنها شفاء، بأُسلوب صريح جازم لا يفيد مجرد الظن ، فهذا الخبر إما أن يكون وحياً من الله سبحانه أو رأياً مبنياً على التجربة والاجتهاد ، واجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يستقر ويستمر إن كان مخالفاً للصواب ، بل يتم استدراكه بالوحي أو برأي آخر. روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فذكرت أن فارس والروم يصنعون ذلك ولا يضر أولادهم" . كان الاعتقاد السائد عند العرب أن جماع الزوجة في فترة الرضاعة يضر بالطفل الرضيع ، ويسمونه الغيلة ، فأراد النبي صلى الله عليه و سلم أن ينهى الصحابة عن ذلك خوفا على الأطفال ، لكنه تراجع وأخذ بتجربة فارس والروم .
تواترت المعجزات التي أثبتت صدق الأخبار التي كان عليه الصلاة والسلام يخبر بها عن أُناس وأحداث فتقع كما أخبر في حياته أو بعد وفاته ، وعندما يخبرنا ﷺ بصيغة الجزم عن دواء ينفع ، ولا يستدرك عليه الوحي ولا يتراجع ﷺ عن ذلك الخبر ؛ فالدواء نافع قطعاً للذين أرشدهم ﷺ لاستعماله ، وليس بالضرورة أن يكون نافعاً لغيرهم في كل زمان ومكان ، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله .
تأثر بعض الفضلاء _عفا الله عنا وعنهم_ بالدعايات الباطلة وأشكل عليهم بعض الأحاديث الشريفة التي يرون أنها تخالف المعطيات العلمية المعاصرة ، فوجدوا في حديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) مخرجاً كما يظنون للهرب من نقد مقام النبوة فحكموا بهذا الحديث على أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم في أمور الطب والتداوي حتى لو خرجت من فمه الشريف مخرج الخبر الجازم، وليتهم تأنوا قليلاً ودرسوا الأمر مع الراسخين في الفقه وأهل الاختصاص الطبي من المؤمنين .
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب ، وكانت أدويتهم مُفردة (نبتة واحدة أو مستحضر واحد أو إجراء واحد كالكي والحجامة ، وليست مركبة من عدة مستحضرات كما عند اليونان) ، فكانت إرشاداته صلى الله عليه وسلم الطبية من البيئة وحسب الإمكانات المتوفرة التي يعرفها الناس حوله ، ولم يرشدهم للتداوي بأدوية ليست عندهم كالمستعملة في الصين وعند الرومان والفرس وغيرهم .
قال الإمام الخطابي رحمه الله (المتوفى: 388هـ) : ".. الطب على نوعين: الطب القِياسي وهو طب اليونانيين الذي استعمله أكثر الناس في واسطة بلدان أقاليم الأرض، وطب العرب والهند وهو الطب التجاربي ... إذا تأملت أكثر ما يصِفه النبي صلى الله عليه وسلم من الداء، فإنما هو على مذهب العرب إلا ما خص به العِلم النبوي الذي طريقه الوحي، فإن ذلك فوق كل ما يدركه الأطباء أو يحيط بحُكمِه الحُكماء والألباء، وقد يكون بعض تلك الأشفية من ناحية التبرك بدعائه وتعويذه ونفثه ، وكل ما قاله من ذلك وفعله صوابٌ وحَسَنٌ بعصمة الله إياه أن يقول إلا صدقًا وأن يفعل إلا حقًا. (أعلام الحديث) .
هل التزم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون رحمهم الله بالأدوية التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها أم كانوا يأخذون برأي أطباء زمانهم ؟
باستخدام خاصية البحث في المكتبة الشاملة في كتب تراجم الصحابة والتابعين وكذلك شروح السنة والمصنفات المعنية بآثار الصحابة ؛ وجدت أن الآثار المتضمنة سؤال الأطباء والتداوي بأدويتهم أكثر من الآثار المتضمنة للتداوي بالعسل والحبة السوداء فضلاً عن غيرها من الأدوية الأقل شهرة ، كما أن الصحابة والتابعين وتابعيهم استعملوا أدويةً لم تكن معروفة في عهد النبوة ، خصوصاً بعد توسع الفتوحات الإسلامية ودخول المدارس الطبية الشرقية واليونانية إلى البلاد الإسلامية .
هذا يدل على أنّ الخبر النبوي بنفع دواءٍ لا يعني أنه تشريع مُلزم للجميع في كل زمان ومكان ، أو أنه حصرٌ لدواء ذلك المرض في الدواء المنصوص عليه ، فالأمراض وأدويتها تختلف باختلاف البشر وأزمنتهم وأمكنتهم . ووظيفة الأطباء وعموم الممارسين الصحيين دراسة الأمراض وكيفية علاجها حسب معطيات زمانهم ومكانهم .
لماذا تكلم النبي ﷺ في الطب والتداوي ، ولم يكن الطب والتداوي مغزى رسالته الشريفة ؟
طب العرب في الجزيرة كان بدائياً ، وكثيراً ما تُعجزهم الحيلة أمام المرض ، فينشدون رأي الحكيم الناصح ، ولم يطأ أرض الجزيرة أنصح ولا أحكم ولا أرحم من محمدٍ ﷺ ، فإذا شكوا إليه ﷺ مرضهم لم يأل جهداً في نصحهم وإرشادهم ، كما أنّ إرشاداته الطبية وفرت أصولاً ومعالم شرعية للتداوي ، ولم تكن تلك الأصول والمعالم لتتضح لولا أن جاءت في سياق التداوي الفعلي ، ومن تلك الأصول والمعالم :
أولاً : إعلام البشرية أن لكل داء دواءً علمه من علمه وجهله من جهله ، فوظيفتهم البحث والتنقيب ، وأن الدواء لا ينفع إلا إذا أصاب الداء وناسبه من حيث التشخيص والكم والكيف ، وأن الدواء النافع مجرد سبب لا يحصل نفعه إلا بإذن الله عز وجل ، فقال ﷺ : " لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذْنِ اللهِ عزَّ وجلَّ " رواه مسلم .
تواترت الأخبار والتجارب الشخصية التي تفيد الانتفاع بالأدوية النبوية ، ولتكون تلك الأخبار والتجارب أكثر انتشاراً وإقناعاً للممارسين الصحيين بمختلف دياناتهم وثقافاتهم ينبغي توثيق تلك التجارب بأسلوب إحصائي علمي معروف في تخصص (الإحصاء الطبي) .
بالمقابل هناك تجارب لم يحالفها التوفيق في التداوي بتلك الأدوية لأسباب تتعلق بكيفية التداوي أو مناسبة المكان أو اختلاف البيئة :
قال الإمام أبو داود في سننه بعد رواية أحد أحاديث احتجام النبي صلى الله عليه وسلم (رقم 3860) : قال معمرٌ (إمام جليل من أئمة تابعي التابعين ورواة الحديث) : احتجَمتُ فذهب عقلي حتى كنتُ أُلقَّن فاتحةَ الكتابِ في صلاتي وكان احتجم على هامَّتِه .
فهذا الإمام الجليل معمر بن راشد تأثر تأثراً سلبياً بالحجامة لبعض الوقت فلم يعد قادراً على استذكار سورة الفاتحة في الصلاة فاحتاج لمن يلقنه إياها حتى تعافى ، إما لأن الحجامة لا تناسب مرضه أو أنه احتجم بطريقة خطأ أو في مكان خطأ ، وهذا يُرجع فيه لتجربة أهل الاختصاص وخبرتهم .
وعلّق الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) على حديث علاج (عرق النّسا) بألية شاة أعرابية تُذاب ثم تُجزأ ثلاثة أجزاء ثم يُشرب على الريق كل يوم جزء ، بقوله : هذا خطاب خاص لأهل الحجاز ومن حولهم ، وبيّن أن أهل المناطق الباردة كالشام الذين لم ينتفعوا بهذا الدواء سببه خصائص الشاة الأعرابية ومناسبتها لأهل البوادي ذات الجو الحار .
وعلّق الإمام ابن الجوزي رحمه الله في (كشف المشكل من حديث الصحيحين) على حديث (الكمأة من المنّ ، وماؤها شفاء للعين) فبين اختلاف الأطباء في كيفية الاستفادة من ماء الكمأة ، ثم نقل عن الإمام إبراهيم الحربي صاحب الإمام أحمد رحمهم الله جميعاً قوله : وَقَالَ لي صَالح وَعبد الله ابْنا أَحْمد بن حَنْبَل: إنَّهُمَا اشتكت أعينهما فأخذا كماة فدقاها وعصراها فاكتحلا بِمَائِهَا، فهاجت أعينهما ورمدت. (أصابهما الرمد) وَإِنَّمَا الْوَجْه مَا ذكرنَا (أي طريقة العلاج الصحيحة بخلاف ما صنعا)، وَقد عصر بعض النَّاس الكماة فداوى بِهِ عينه فَذَهَبت (أي عميت). انتهى كلام ابن الجوزي.
وبالتالي ينبغي لمن أراد الانتفاع بالأدوية الواردة في الأحاديث الشريفة ( كالحبة السوداء ، والعسل ، والسنا ، والقسط الهندي ، وبلّ الأصبع بالريق ووضعه على تربة الأرض ثم وضعه على الجروح والقروح مع التسمية والدعاء ، والكي ...) أن يتأمل كلام الأئمة الذين شرحوها ليفهمها على وجهها الصحيح ويدرك مواقع الخطأ في تطبيقها ، ثم يدرس الأمراض التي تناسبها تلك الأدوية ثم يحدد الكم والكيفية والمدة العلاجية من خلال دراسات محكمة ذات منهج علمي يعرفه المتخصصون في الدراسات الطبية .
ثانياً : إباحة التداوي عموماً أخذاً بالأسباب ، ومنع التداوي بالمحرمات فقد أعلن صلى الله عليه وسلم لعموم الناس عندما سُئل عن التداوي بقوله ( عباد الله ، تداووا ، ولا تداووا بحرام) ونهى الذي سأله عن صناعة الخمر للتداوي بها وقال (إنها ليست دواء ، ولكنها داء) ونهى الطبيب الذي سأله عن الضفدع يستخلص منه دواءً فنهاه عن قتله واستعماله .
ثالثاً : إرساء التوحيد في القلوب والتعلق بالله سبحانه ، والتحذير من أعمال الجاهلية المشركة في التداوي عند السحرة والدجالين وعبّاد الشياطين ، فقال ﷺ (اعرضوا عليّ رُقاكم ، لا بأس بالرقية ما لم تكن شركاً) أي اعرضوا عليّ الأدعية والتعويذات التي تستعملونها لرقية مرضاكم كي لا يكون فيها شرك بالله ، وقال (من أتَى عرَّافًا أو كاهنًا ، فصدَّقه بما يقولُ ، فقد كفر بما أُنزِل على محمَّدٍ) .
رابعاً : مشروعية الرفق عند التداوي باختيار الأسلوب الأيسر والأسهل والأقل إيلاماً للمريض ، فقال ﷺ للطبيب (إنما أنت رفيق) أي ترفق بالمرضى ، وقال (وأنهى أمتي عن الكي) وقال (لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العُذرة ، وعليكم بالقسط) والغمز هو إدخال الإصبع في حلق الصغير ولوزتيه والضغط عليها بقوة ، والعذرة هي وجع الحلق ، والقسط هو ما يُعرف بالقسط أو الكست الهندي ، فالقسط كان نافعاً ومتوافراً بين أيديهم فأرشدهم إليه بديلاً عن الغمز المؤلم ، وهذا لا يعني أنه إرشادٌ ملزم في كل زمان ومكان .
خامساً : إقرار مهنة الطب ومسئولية الطبيب والتحذير من ممارستها بدون معرفة وخبرة سابقة ، فقال (أيُّما طبيبٍ تَطبَّبَ على قَومٍ لا يُعرَفُ لهُ تَطَبُّبٌ قبلَ ذلكَ فأعْنَتَ فهوَ ضامِنٌ) أي من مارس الطب ولم يُعرف أنه طبيب عارف بالطب فَأَعْنَتْ، أي: أَضَرَّ بالمريضِ ، فهو ضامِنٌ ؛ أي يتحمل نتائج الضرر.
●●●
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخمر داء ، فكيف نتعامل مع بعض الدراسات التي تقترح أنه مفيد صحياً ؟
عن وائل بن حُجر رضي الله عنه أنَّ طَارِقَ بنَ سُوَيْدٍ الجُعْفِيَّ سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الخَمْرِ، فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا . فَقالَ : إنَّما أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ ! فَقالَ : إنَّه ليسَ بدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ. رواه مسلم .
أشكل على البعض ظهور دراسات تفيد أن كميات قليلة من الخمر قد تكون مفيدة للصحة ، وكذلك أشكل عليهم استعمال الكحول كمعقم ومثبِّت في التصنيع الدوائي ، فكيف يُقال إنه داء وليس بدواء ؟
حذرت جمعية القلب الأمريكية الذين لا يشربون الخمر وعموم المشروبات الكحولية من البدء بشربها تأثراً ببعض الدراسات التي مفادها أن تناول كميات معتدلة من المشروبات الكحولية مفيد لصحة القلب ، كما حذرت الذين يتناولون كميات قليلة من زيادة الكمية ، وأفادت الجمعية أن تلك الدراسات لا توفر الدليل العلمي الكافي ، ويحتمل أن المشمولين في تلك الدراسات ممن يتناولون كميات معتدلة كانوا يمارسون حياة صحية من حيث التغذية والرياضة أفضل من غيرهم ، وبالتالي لا يكون تناول الخمر هو سبب الأثر الإيجابي على الصحة .
وأفادت الجمعية أن البدء بشرب الخمر والمشروبات الكحولية عموماً يسبب الاستمرار في تناولها والإكثار منها ، وهذا يزيد خطورة الإصابة بما يلي :
ارتفاع ضغط الدم ، السمنة ، جلطات الدماغ ، سرطان الثدي ، أمراض الكبد ، الاكتئاب ، الانتحار ، الحوادث ، متلازمة إدمان الخمر (وبالتالي فقد السيطرة على توقيت وكمية تناوله مما له آثار وخيمة على الصحة والعلاقات الأسرية والاجتماعية والحياة العملية) ، شرب الخمر أثناء الحمل يزيد احتمالية التشوهات الخلقية للجنين ، وشربه في فترة الرضاعة الطبيعية مرتبط بنقص مهارات التفكير لدى الأطفال الرضع حين يكبرون ، ويزيد خطورة تقرحات المعدة للذين يتناولون الأسبرين .
كما نوهت الجمعية بأن البعض يرى أن تناول الخمر والمشروبات الكحولية يريح أعصابهم ويساعدهم على الاسترخاء ، فنبهتهم للعديد من الطرق الإيجابية الأفضل صحياً لتخفيف الضغوط النفسية كممارسة الرياضة وتمارين الاسترخاء والنوم الكافي والتغذية الجيدة وممارسة الهوايات المحبوبة .. وغيرها .
واختتمت الجمعية بيانها بتحذير الذين لا يشربونها من البدء بتعاطيها من أجل فوائد صحية لم تثبت بدليل علمي مؤكد . (رابط المقالة بالإنجليزية)
استخدام الكحول كمعقم من الميكروبات أو كمذيب عضوي أو كعنصر تثبيت في بعض المستحضرات الدوائية لا يعني أن تناوله دواء . مادة الهيبوكلورايد الموجودة في (الكلوركس) ، ومادة الكلورهيكسيدين الموجودة في سوائل التعقيم تستعمل كمطهر ومعقم لكنها ضارة جداً لو شربها الإنسان ! ، وبالتالي فليس كل ما نفع في جانب من جوانب الصحة يصير علاجاً ويُسمى دواءً !
تنبيه : أفتى مجمع الفقه الإسلامي بجواز استعمال الكحول كمطهر خارجي للجلد والجروح ، وجواز استعماله في أغراض التصنيع الدوائي (كمذيب أو مثبت) إذا لم يوجد له بديل ، كما أفتى بحرمة استعمال الخمر الصرف كدواء .
ومن أصدق من الله حديثاً :
﴿ یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِۖ قُلۡ فِیهِمَاۤ إِثۡمࣱ كَبِیرࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَاۤ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ﴾ [البقرة ٢١٩]
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَیۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ * إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ فِی ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ وَیَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ [المائدة]
●●●
العسل : كيف يكون شفاءً وهو لا يناسب بعض الأمراض كالسكري ؟
قال تعالى في النحل : ﴿ یَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ فِیهِ شِفَاۤءࣱ لِّلنَّاسِۚ ﴾ [النحل ٦٩] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره : ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ .. فِي الْعَسَلِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَدْوَاءٍ تَعْرِضُ لَهُمْ. قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الطِّبِّ النَّبَوِيِّ: لَوْ قَالَ فِيهِ : "الشِّفَاءُ لِلنَّاسِ" لَكَانَ دَوَاءً لِكُلِّ دَاءٍ، وَلَكِنْ قَالَ ﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ .. انتهى . وانظر مثل كلامه في تفسير القرطبي وفتح البيان للقنوجي وغيرها.
أي : لو كانت كلمة شفاء مُعرفةً ب (أل) وهي من صيغ العموم عند علماء الأصول واللغة لكان المراد عموم الأمراض ، لكن الكلمة نكرة (بدون أل) في سياق إثبات الشفاء وهذا يفيد مبدأ الشفاء وحصوله ، ولو في بعض الأمراض ، كما نقول مثلاً لمضاد حيوي معين : فيه شفاء ! فنحن لا نعني أنه شفاء لكل مرض ، وإنما شفاء للالتهابات البكتيرية التي عُرف نفعه فيها ، كما أن المضاد قد يسبب ضررا في بعض الحالات ، ومع ذلك ما زلنا نقول : فيه شفاء .
اشتكى الصحابة من الحمى والبواسير والصداع واستحاضة النساء وعُذرة الأطفال (وجع الحلق) وغيرها ولم يصف النبي صلى الله عليه وسلم العسل لكل تلك الأمراض مع أنه حلو الطعم وسهل التناول ، بل أرشدهم عليه الصلاة السلام إلى أدوية أخرى .
كان العسل دواء أساسياً على مدار قرون طويلة في مختلف الحضارات ؛ الفرعونية والرومانية والإغريقية والصينية وغيرها ، ثم تراجع بل وأُهمل مع ثورة الحضارة الغربية الحديثة ، إلا أن ذلك الإهمال في الغرب لم يدم ، فرجع التداوي بالعسل في العديد من الأمراض لكن رجعته اتخذت أكثر من مسار :
المسار المتحمس مع منافع العسل دون تدقيق علمي منهجي لأنواعه وطرق تخزينه والأمراض التي يناسبها وطريقة التداوي المُثلى به من حيث الكم والكيف والمدة ، فيكتفي أهل هذا المسار بأطراف المعلومات ونُتف من الدراسات مهما كانت هشة للترويج للتداوي بالعسل ، وهذا المسار إن نجح في لفت الأنظار للعسل فإنه سيؤخر الانتفاع به في المؤسسات الطبية والمراكز البحثية بسبب ضعف القيمة العلمية للدراسات التي يعتمد عليها ، وهذا المسار راج بشكل كبير في المجتمعات الإسلامية ، وزاد الأمر سوءًا بتولي "التجار" زمام الأمر .
المسار الآخر علمي منهجي دقيق لكن مخرجاته ونتائجه بطيئة ، ومع ذلك فهي كافية ليرى الناس الحقيقة القرآنية "فيه شفاء للناس" عياناً على طاولة البحث العلمي ، وما نطق به القرآن يُعتبر دليلاً علمياً قاطعاً لأن الذي أنزله سبحانه هو الذي خلق المخلوقات وخلق الأمراض وأدويتها ﴿أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ﴾ [الملك ١٤] ويبقى على الإنسان أن يستعمل عقله وحواسه وأدواته العلمية في كيفية الاستفادة من الحقيقة القرآنية في الواقع التطبيقي التفصيلي .
من نتائج المسار العلمي الدقيق استعمال العسل في علاج الجروح وتقرحات الفراش والحروق وإنتاناتها الجرثومية وتسريع شفائها والتئامها ، وتخفيف السعال الناتج من احتقانات الحلق والقصبة الهوائية ، ومقاومة العديد من أنواع الجراثيم المسببة لنزلات الإسهال والزحار القولوني ، وكذلك جرثومة المعدة المسببة لالتهابات المعدة والاثني عشر وتقرحاتهما..
هناك نتائج معملية مبدئية لتأثير العسل إيجابيا في خفض مستوى السكر لدى مرضى السكري ! ، كما ظهرت دلائل تشير لتحسين العسل كفاءة جهاز المناعة ومقاومة بعض أنواع السرطان ، إلا أن الأمر ما زال في طور البحث والدراسة . (المصدر)
مما يلفت النظر في تلك الدراسات أثره الإيجابي المُحتمل على مرضى السكري ، وقد كان بدهياً عند بعض الأطباء أن العسل لا يلائم مرضى السكري بسبب محتواه العالي من السكريات ، إلا أن التركيبة المعقدة للعسل جعلت الباحثين يغيرون من نظرتهم ويعيدون الأمر إلى طاولة البحث بدلاً من الانطباعات السابقة الغير دقيقة .
●●●
ما العمل عندما يتعارض نصٌ من القرآن أو السنة مع معلومة طبية ؟
القاعدة الشرعية أن " صحيح المنقول لا يتعارض مع صريح المعقول " فالقرآن الكريم وصحيح السنة لا يمكن أن يتعارضا مع العقل البدهي الصريح والحقائق العلمية الثابتة .
من المؤسف أن بعض المعاصرين درجوا على استنكاف نصوص الوحي والإعراض عنها لمجرد وجود "معلومات" طبية تتعارض معها ، والواجب اتباع الخطوات التالية :
تصنيف المعلومة الطبية ؛ فرضية أم نظرية أم حقيقة راسخة ؟
التأكد من صحة الحديث الشريف .
مراجعة فهم العلماء الراسخين المتقدمين لتلك النصوص وجمع أقوالهم .
تطبيق قواعد أصول الفقه (وهو تخصص شرعي مستقل يُعنى بأصول وقواعد استنباط الأحكام من نصوص القرآن والسنة ، ومن ذلك معرفة الفرق بين العام والخاص ، المطلق والمقيد ، المنطوق والمفهوم ، معرفة دلالات الأمر والنهي ، مراعاة الحال والزمان ..وغيرها) .
تشجيع البحث المنهجي المُحكّم لمعرفة الأسلوب الأمثل للتداوي من حيث النوع والكم والكيف والمدة والمرض الملائم .
إذا سلكنا هذا السبيل المنهجي الرصين ردمنا الفجوة الوهمية في عقول البعض بين الوحي والحقائق الطبية ، وقطعنا الطريق أمام صنفين من الناس : الغالي والجافي ، فالغالي الذي يقحم نصوص التداوي إقحاماً ينقصه الفهم ومعرفة آليات التطبيق والتجربة ، والجافي الذي فتنته الحضارة الغربية الحديثة فمالت به ناحية الشمال واستخف بنصوص الوحي .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ إنَّ أخي استَطلقَ بطنُهُ ، فقالَ : اسقِهِ عسلًا ، فسقاهُ ثمَّ جاءَ فقالَ : يا رسولَ اللَّهِ قد سقيتُهُ عسلًا فلم يَزدْهُ إلَّا استِطلاقًا ؟ قال : فقالَ رسولُ اللَّهِ : اسقِهِ عسَلًا ، قال : فسقاهُ ، ثمَّ جاءَ فقالَ : يا رسولَ اللَّهِ إني قد سقيتُهُ فلم يزدْهُ إلَّا استطلاقًا ؟ قالَ : فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : صدقَ اللَّهُ وَكذبَ بطنُ أخيكَ ، اسقِهِ عسلًا فسقاهُ فبرأَ . رواه البخاري ومسلم .
أشكل هذا الحديث على بعض الأطباء قديماً ، خصوصاً الذين أخذوا الطب من الإغريق ، لأن "المعلومة" المتوفرة لديهم أن العسل مليّن يستخدم لعلاج الإمساك فكيف يصفه لمريض يعاني من الاستطلاق (الإسهال) ويكرر استعماله ؟
ولأن الطب عندهم كان قرين الفلسفة يُدَّرسان معاً ، والعقل عند الفلاسفة مقدم على الوحي ، اجترأ زنادقتهم على الحديث الشريف ومقام النبوة في صورة تتكرر عبر التاريخ..
﴿ فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرِحُوا۟ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ ﴾ [غافر ٨٣] : فلما جاءت هؤلاء الأمم المكذِّبة رسلُها بالدلائل الواضحات، فرحوا جهلًا منهم بما عندهم من العلم المناقض لما جاءت به الرسل.. وفي الآية دليل على أن كل علم يناقض الإسلام، أو يقدح فيه، أو يشكِّك في صحته، فإنه مذموم ممقوت، ومُعتَقِده ليس من أتباع محمد ﷺ. (التفسير الميسر) .
الحديث الشريف رواه البخاري ومسلم فهو في أعلى مراتب الصحة ، بقي أن نراجع كلام الأئمة المتقدمين رحمهم الله ،
قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله (ت 852 هجري) : اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فَقَالَ : الْعَسَلُ مُسَهِّلٌ فَكَيْفَ يُوصَفُ لِمَنْ وَقَعَ بِهِ الْإِسْهَالُ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يحيطوا بِعِلْمِهِ . فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ الْوَاحِدَ يَخْتَلِفُ عِلَاجُهُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ وَالْعَادَةِ وَالزَّمَانِ وَالْغِذَاءِ الْمَأْلُوفِ وَالتَّدْبِيرِ وَقُوَّةِ الطَّبِيعَةِ (يعنون بالطبيعة فسيولوجيا الجسم ووظائفه الطبيعية) وَعَلَى أَنَّ الْإِسْهَالَ يَحْدُثُ مِنْ أَنْوَاعٍ مِنْهَا الْهَيْضَةُ (يعنون بالهيضة اضطراب الجهاز الهضمي بسبب مواد فاسدة غير مهضومة) الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ تُخَمَةٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِلَاجَهَا بِتَرْكِ الطَّبِيعَةِ وَفِعْلِهَا فَإِنَّ احتَاجَتِ إِلَى مُسَهِّلٍ مُعَيَّنٍ أُعِينَتْ مَا دَامَ بِالْعَلِيلِ قُوَّةٌ فَكَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ اسْتِطْلَاقُ بَطْنِهِ عَنْ تُخَمَةٍ أَصَابَتْهُ فَوَصَفَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَسَلَ لِدَفْعِ الْفُضُولِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَوَاحِي الْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ... وَإِنَّمَا لَمْ يُفِدْهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِأَنَّ الدَّوَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِقْدَارٌ وَكَمِّيَّةٌ بِحَسَبِ الدَّاءِ إِنْ قَصُرَ عَنْهُ لم يَدْفَعهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن جاوزه أَوهى الْقُوَّةَ وَأَحْدَثَ ضَرَرًا آخَرَ فَكَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْهُ أَوَّلًا مِقْدَارًا لَا يَفِي بِمُقَاوَمَةِ الدَّاءِ فَأَمَرَهُ بِمُعَاوَدَةِ سَقْيِهِ فَلَمَّا تَكَرَّرَتِ الشَّرَبَاتُ بِحَسَبِ مَادَّةِ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، انتهى مختصرا . ( فتح الباري )
فَهِم العلماء من الحديث أن العسل فيه شفاء لذلك المريض بلا شك ، فقد أكّد النبي صلى الله عليه وسلم تكرار التداوي به ثم جزم بجدواه قائلاً : صدق الله (أي في قوله سبحانه : فيه شفاء للناس) ، وكذب بطن أخيك (حين لم يظهر انتفاعه بالعسل من الشربات الأولى) ، وبينوا خطأ من فسّر الاستطلاق بنوع واحد لا يلائمه العسل في جميع الحالات .
دعوى المعترضين على الحديث كانت تشخيصاً خاطئاً لحالة المريض ، ومعلوماتهم مجرد فرضية لم تبلغ مستوى النظرية فضلاً عن مستوى الحقيقة العلمية ، واليوم تتكشف دراسات بعضها معملية والأخرى إكلينيكية عن فاعلية العسل في علاج بعض حالات الإسهال فهو مقاوم للعديد من الجراثيم ، من بينها جراثيم مسببة للإسهال ، بل الأغرب من ذلك إشارة بعض الدراسات إلى أثر جرعة (كمية) العسل على الجراثيم ، فالجرعة الأعلى (bactericidal) تقتل الجراثيم بشكل أسرع من الجرعة الأقل (bacteriostatic) ! كما أن العسل يُحسّن من امتصاص الأملاح والماء من الأمعاء أثناء النزلات المعوية ! وبالتالي يزول الإشكال في فهم الحديث .
ويبقى الدور على الباحثين لمعرفة أنواع الأمراض التي يعالجها أو يساعد في علاجها العسل ومعرفة نوع العسل والكمية والتوقيت والمدة المناسبة لكل مرض ، مع مراعاة الأسلوب العلمي المعروف في البحوث الطبية ، وهو وإن كلّف المزيد من الوقت والجهد إلا أن نتائجه أفضل وأقوى .
●●●
إذا اختص الله بعلم ما في الأرحام فكيف استطاع الأطباء معرفة جنس الجنين ومرضه الوراثي ؟
الغيب نوعان : مُطلق لا يطّلع عليه أحد البتة كوقت قيام الساعة ، وجزئي أو نسبي وهو الذي لا يعرفه البعض لغيابه عنهم لكن يعرفه آخرون لمشاهدتهم له كالذي يحصل في بيت جارك ولا تراه أنت ؛ هو غيب جزئئ بالنسبة لك لكنه يصبح مُشاهداً لو دخلت بيته ، ولا يعني هذا أنك صرت تعلم الغيب .
﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَیُنَزِّلُ ٱلۡغَیۡثَ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِی نَفۡسࣱ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدࣰاۖ وَمَا تَدۡرِی نَفۡسُۢ بِأَیِّ أَرۡضࣲ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرُۢ﴾ [لقمان ٣٤]
هَذِهِ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، فهي غيب مُطلق لا يعلم بها أحد البتة ، فإذا قدر الله سبحانه حصول ما أراد منها وأمر به ؛ علمته الملائكة الموكلون به وكذلك علم به من شاء من خلقه سبحانه ، فصار غيباً نسبياً يعلمه البعض دون البعض بحسب ما يفتح الله لخلقه من العلم ، فإذا أمر الله الملك الموكل بالحمل بكتابة تقدير الجنين علمه الملك فلم يعد غيباً مُطلقاً .
العلم اليقيني بالغيب المطلق استأثر الله بعلمه ، أما التخمين والتوقع المبني على الخبرة والتجربة والمعلومات المسبقة فليس كشفاً للغيب وليس بيقين .
ومن نماذج التخمين الطبي حول جنس الجنين ما قاله الإمام القرطبي (٦٧١ هـ) رحمه الله : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ: إِذَا كَانَ الثَّدْيُ الْأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ فَهُوَ ذَكَرٌ (أي الجنين)، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الْأَيْمَنَ أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ يَفْسُقْ. انتهى . أي لا يُعاتب شرعاً لأنه لم يجزم مدعياً علم الغيب .
معرفة الأطباء لجنس الجنين ومرضه الوراثي بما فتح الله عليهم من الفحوص المخبرية والتصوير الطبي لا يُعتبر علم غيب ، بل علم شهادة ؛ أي أنه يخبر بما يشاهده في الفحوصات والصور ، كالذي يفتح بطن الحامل أثناء العملية القيصرية ويرى أعضاء الجنين التناسلية فيعرف جنسه قبل إخراجه من الرحم ويخبر بقية الفريق الطبي الذين لا يرون ما يراه ؛ هل يُقال : إنه يعلم الغيب ؟!
معرفة الأطباء بجنس الجنين لا يعني أنهم يعرفون مصير الحمل ، وساعة الولادة ، وكم سيعيش بعد الولادة وأين سيموت ، وهل سيكون فقيراً أم غنياً ، صالحاً أم فاسداً ، شقياً أم سعيداً ، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الحمل إذا بلغ مائةً وعشرين يوماً نُفخت فيه الروح وأُمر المَلك الموكل بالحمل بكتابة عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد !. الغيب المُطلق الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه بالنسبة للجنين أعظم بكثير من مجرد الجنس وبعض الأمراض ، وحتى لو تمكن طب الجينات الوراثية مستقبلاً من معرفة خارطة جينات الجنين وبالتالي تحديد صفاته الجسدية أو بعض سماته السلوكية فهذا من الغيب النسبي الذي فتح الله لهم علمه .
(ويعلم ما في الأرحام) ( ما ): موصولة بمعنى الذي ، وهي من صيغ العموم ، (في الأرحام) أي يعلم سبحانه كل ما في أرحام الإناث .
عبر بـ (ما)؛ لأنها أعم وأشمل من (مَن)؛ إذ (مَن) تختص بالعاقل، هذه من جهة، من جهة أخرى أن (ما) تختص بالصفات، و(مَن) بالذوات... فالجنين الذي في الرحم ليس العلم المختص به مجرد كونه ذكرًا أو أنثى، أو طويلًا أو قصيرًا، أو صغيرًا أو كبيرًا، لا، هناك ما هو أبلغ من ذلك، وهو صفات هذا الجنين، ماذا يكون ؟ شقيًّا أم سعيدًا، طويل العمر أم قصير العمر؟ هل عمله صالح، أو عمله فاسد؟ .. ( يُنظر تفسير ابن عثيمين) .
﴿ٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِیضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَیۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ﴾ [الرعد ٨] كل أنثى : أي من الكائنات الحية التي تحمل ، تغيض الأرحام : أي تنقص الأرحام بالسقط أو الولادة المبكرة ، تزداد : أي في مدة الحمل ..
نسبة ليست بالقليلة من النساء المتزوجات (20 % أو أكثر في بعض الدراسات) تمر بها دورتها الشهرية المعتادة ولا تشعر أنها حملت لكن الحمل سقط وأن الجنين في أول أيامه (وطوله أقل من نصف مليمتر) كان ضمن دم الدورة ! أو أن كيس الحمل الصغير جداً ومعه الجنين اضمحل وتلاشى وامتصه جدار الرحم ! ، من الذي يعلم بما جرى ويجري في أرحام هؤلاء الملايين من النساء ؟
من الذي يعلم بما في أرحام كل الإناث من النساء والطيور والحيوانات والزواحف والحيتان ؟ عدد الأجنة .. أعمارها .. أحجامها .. مصيرها أثناء الحمل .. كيفية الولادة .. اكتسابها للمعيشة .. صحتها ومرضها .. زمان ومكان وكيفية موتها .. ؟
إنه الله القدير .. إنه عالم الغيب والشهادة
الغيب الجزئي بالنسبة للأجنة يزول ويصبح مشاهداً أكثر كلما تقدم الطب ، وهذا التقدم العلمي فتنة (أي اختبار وامتحان) ؛ فالمؤمن يعلم أن هذا علمٌ فتحه الله على الخلق ويَسَّره لهم نعمةً واختباراً ، فيحمد الله ويشكره ، ويستعمل هذا الفتح في مرضاة الله ونفع الناس ، ويسأل الفقهاء الراسخين عما أشكل عليه من مسائل الإيمان أو الحلال والحرام . أما المغرور بنفسه الجاهل بقدر ربه فيتعالى على الله بهذا الفتح وينسبه لحول نفسه وقوته ويجحد نعمة الله عليه ، ويعميه غروره عن الفرق الشاسع جداً بين ما اكتشفه وما لم يكتشفه بعد !
﴿ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَظَلُومࣱ كَفَّارࣱ ﴾ [إبراهيم ٣٤]
وأعطاكم من كل ما طلبتموه، وإن تعدُّوا نِعَم الله عليكم لا تطيقوا عدها ولا إحصاءها ولا القيام بشكرها؛ لكثرتها وتنوُّعها. إن الإنسان لَكثير الظلم لنفسه، كثير الجحود لنعم ربه.(التفسير الميسر)
●●●
"العين حق" كيف نتعامل مع هذا الحديث الشريف ، وليس للعين ذكر في مصادر الطب الحديث ؟
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الْعَيْنُ حَقٌّ، ولو كانَ شيءٌ سابَق القَدَرَ سَبَقَتْهُ العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلْتُمْ فاغْسِلُوا . رواه مسلم
كيف نفهم قضية العين وكيف نتحدث مع مرضانا عنها ؟
العين سبب "غير ملموس" للأمراض ولذلك يقع الإشكال لدى الكثير في التعامل معها بين طرفي نقيض ؛ إنكارها أو المبالغة في قبولها والوسوسة بسببها !
العين سبب للمرض وليست تشخيصا مستقلا ..
مثال افتراضي (استفدته من أحد الزملاء) : عندما تحضر أم بطفلها الوسيم الظريف إلى مناسبة اجتماعية وتنسى أذكار الصباح والمساء ، وتنسى تعويذ طفلها بمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوّذ به الحسن والحسين ( أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة) ، ثم يقدر الله سبحانه أن تصيبه إحدى الحاضرات بعينها الحاسدة فينزلق الطفل على الأرض وتنكسر يده ؛ فهل نقول : تشخيص الحالة "عين" وعلاج الكسر هو الرقية الشرعية فقط ؟ أم نقول : تشخيص الحالة "كسر" سببه العين ، والعلاج هو تجبير الكسر في المستشفى مع تذكير الأم بأهمية الأوراد الشرعية ؟
نشجع الجميع على قبول الإجابة الثانية كي لا يقع التعارض ، وكذلك الحال في الأمراض فتشخيص الحالة بأنها مثلا : ورم أو حساسية أو التهاب .. لا يتعارض مع كون سببها العين ، وكون سببها العين لا يعني عدم معالجتها في المستشفى بالعقاقير الطبية !
هذا المثال افتراضي ، أما في الواقع فلا يستطيع أحد أن يجزم بأن المرض أو الإصابة سببها العين ، كما لا يستطيع أحد الجزم بنفي العين ! فهي أمر محتمل ، وبدلا من الانشغال بهذا التساؤل (هل هي عين ؟ ) ينبغي الانشغال بعلاج المرض بالأسباب المتاحة ويرقي المريض نفسه أو يرقيه أهله الرقية الشرعية .
جزم بعض الرقاة بالعين يوقع الكثير من المرضى في الاستسلام واليأس من جدوى العلاج والتداوي ، كما يزرع لدى البعض الشكوك والضغينة تجاه من يظنه سببا للعين ، وهذه أمور لا تخفى مفاسدها .
عدم العلم لا يعني العلم بالعدم .. أي : عدم علمنا كأطباء ومختصين بدليل مادي محسوس يثبت أثر العين لا يعني امتلاكنا لدليل علمي ينفي أثر العين ، فكلمة "غير معروف unknown " لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات المراجع الطبية ، وعادة يتم تعداد أسباب كل مرض بناء على الأدلة المحسوسة ، لكن في ذيل القائمة يُكتب : idiopathic أي أن بعض الحالات مجهولة السبب ، والذي نجهله في جسم الإنسان وعلاقته بالأشياء من حوله أكثر بكثير مما نعرفه ، وإذا كانت الدراسات الطبية الحديثة تبحث عن المحسوس فقط فمن المؤكد أنها لن تجد غير المحسوس !
الوحي دليل علمي .. فالمؤمن يكفيه أن تكون المعلومة ثابتة بنص صريح من القرآن أو صحيح السنة ليطمئن لها قلبه ويعمل بمقتضاها وفق قواعد وضوابط فهم النصوص الشرعية المنصوص عليها في علم أصول الفقه ، وعدم معرفة تلك القواعد سبب للخطأ في فهم النصوص وتطبيقها في الواقع .
يقول فرنرهيزنبرج الفيزيائي الألماني الحائز على جائزة نوبل عام 1932 : " أول شربة تشربها من كأس العلوم الطبيعية ستحولك لملحد لكنك ستجد الإله ينتظرك في نهاية الكأس "
هذه حالة الانبهار التي يصلها الباحث العلمي في نهاية المطاف أمام التعقيد الشديد والدقة المتناهية في خلق الكون والكائنات ليجد نفسه عاجزا عن تقديم التفسير المادي لكل شيء فيستفيق من غروره العلمي ويعلن حاجته للإيمان بالله والغيب .
عندما يسألني أحدهم عن مرضه أو مرض طفله : هل هي عين ؟ فجوابي المعتاد : العين حق وهي سبب من أسباب الأمراض لكن حسب معلوماتنا لا يوجد أعراض مَرَضية خاصة بالعين تميزها عن الأسباب الأخرى ، لذلك نحن كأطباء لا نستطيع تشخيص العين ، وسواء هي عين أم لا فالبرنامج العلاجي واحد يشتمل على الأدوية الطبية والانتفاع بالرقية الشرعية لأنها دعاء مبارك في كل الأحوال .
يرى بعض الرقاة _ وفقهم الله وسددهم_ وجود علامات مرضية تؤكد العين ، ومن خلال تجربتنا فتلك الأعراض هي جزء من أعراض المرض نفسه سواء كان عضويا أو نفسيا . هناك قرائن تحتمل تسبيب العين للمرض لكنها لا تكفي للتأكيد .
الشريعة الإسلامية الغراء أرشدتنا لحقيقة العين وكيفية الوقاية منها وبينت لنا أنها جزء من أقدار الله التي تقع بإذنه لحكمة أرادها سبحانه كما تقع الأمراض بأسباب أخرى ، وبذلك يطمئن المؤمن ببذله لأسباب الوقاية من العين دون وسوسة ، ولا يجزع إن أصيب بمرض سببه العين بل يبادر للعلاج ويحمد الله على كل حال ، فالإصابة بالعين لا تعني استحالة الشفاء !
معنى الحديث الشريف
العَيْنَ حقٌّ، أي: أنَّ الإصابةَ بالعَيْنِ شيءٌ ثابِتٌ موجودٌ، «ولو كان شيءٌ سابِقٌ القَدَرَ»، أي: لو أَمْكَنَ أن يَسبِقَ القَدَرَ شيءٌ، فيُؤثِّرَ في إفناءِ شيءٍ وزَوالِه قبلَ أوانِه المقدَّرِ له؛ لكان هذا الشيءُ الَّذِي يَسبِق القَدَرَ هو العَيْنَ، وحاصِلُه: أنَّ المرءَ لا يُصيبُه إلَّا ما قُدِّر له، وأنَّ العَيْنَ لا تَسبِق القَدَرَ، ولكنَّها مِن القَدَرِ؛ فالحديثُ جرَى مَجْرَى المبالَغَةِ في إثباتِ العَيْنِ، لا أنَّه يُمكِن أنْ يَرُدَّ القَدَرَ شيءٌ.
«وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلُوا»: كانوا يَرَوْنَ أنْ يُؤمَرَ العائِنُ فيَغسِلَ أطرافَه وما تَحتَ الإزارِ، فتُصَبَّ غُسالَتُه على المَعْيُونِ؛ يَستَشْفون بذلك، فأمَرَهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا يَمتَنِعوا عن الاغتِسال إذا أُرِيدَ منهم ذلك. (موقع الدرر السنية) .
فإذا وُجدت قرينة قوية تدل على تسبيب العين للمرض (كما في القصة التالية) فلا بأس بطلب أثر ماء من العائن ، أو يؤخذ من أثره دون علمه إذا خُشي الإحراج والضغينة .
روى الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في المسند وابن ماجه في سننه (وصححه الألباني) قصة إصابة الصحابي سهل بن حنيف رضي الله عنه بالعين وطريقة علاجه إذا عُرف العائن :
"مَرَّ عامِرُ بنُ ربيعةَ بسَهْلِ بنِ حُنَيفٍ وهو يَغتسِلُ" وكان يغتسِلُ في بِئرٍ في المدينةِ، فقال عامِرٌ رضِيَ اللهُ عنه عندما رأى سَهلًا: "لم أَرَ كاليومِ ولا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ"، أي: ما رأيتُ يومًا مِثلَ ما رأيتُه اليومَ في البَياضِ والنُّعومةِ؛ جِلدًا حَسَنًا جميلًا أجمَلَ مِن جِلْدِ الفَتاةِ المُنعَّمةِ، المُخَبَّأَةِ الممنوعةِ مِن الخُروجِ مِن خِبائِها وخَيمتِها وبيتِها الَّتي لم تتزوَّجْ بعدُ! "فما لَبِثَ أنْ لُبِطَ به"، أي: صُرِعَ سهلُ بنُ حُنيفٍ، وسَقَط مِن قِيام، وذلك مِن أثِرِ العَينِ والحَسدِ، وفي روايةِ الطَّبرانيِّ: "فوُعِكَ سَهلٌ مكانَه، واشتَدَّ وَعْكُه".
"فأُتِيَ به"، أي: بخَبرِ الحدث، "النَّبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقيل له: أدرِكْ سَهلًا صَريعًا"، أي: مَريضًا لا يَقْوى على القِيامِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن تتَّهِمونَ به؟ قالوا: عامِرَ بنَ رَبيعةَ". وفي روايةِ الطَّبرانيِّ: "فأخبَرَه سَهلٌ الَّذي كان مِن شأْنِ عامِرٍ"، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "عَلَامَ يقتُلُ أحدُكم أخاه؟!"، أي: بالعينِ والحَسدِ، ثُمَّ قال صلَّى الله عليه وسلَّم مُوجِّهًا إلى الأدبِ في مِثلِ هذه المواقِف: "إذا رأى أحدُكم مِن أخيه ما يُعجِبُه فليدْعُ له بالبَركةِ"، أي: أنْ يسأَلَ اللهَ له الزِّيادةَ في الخيرِ.
"ثمَّ دعا"، أي: طلَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، "بماءٍ، فأمَرَ عامِرًا أنْ يَتوضَّأَ، فيغسِلَ وجْهَه ويديه إلى المِرْفقينِ ورُكْبتَيه وداخلةَ إزارِه"، وداخِلُ إزارِه: طرَفُ الإزارِ الَّذي يَلِي الجَسدَ، "وأمَرَه أنْ يَصُبَّ عليه"، وفي روايةِ أحمدَ مِن حديثِ سَهلِ بنِ حُنَيفٍ: "ثمَّ يَصُبَّ ذلك الماءَ عليه رجُلٌ مِن خلْفِه على رأْسِه وظهرِه، ثمَّ يُكْفِئَ القدَحَ. ففُعِلَ به ذلك، فَراحَ سَهلٌ مع النَّاسِ ليس به بأسٌ" وهو كِنايةٌ عن سُرعةِ بُرْئِه، وهذا الأمْرُ لا يُمكِنُ تعليلُه ومعرفةُ وجْهِه؛ إذ ليس في قوَّةِ العقلِ الاطِّلاعُ على أسرارِ جميعِ الأمورِ. (موقع الدرر السنية)
●●●
قال الله تعالى ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ﴾ [البقرة: 186] ، وقال جل وعلا ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾ [غافر: 60] ، وقال سبحانه ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾ [النمل: 62]
بعض المرضى يدعون الله دعاءً صادقاً مع الضراعة والاضطرار، ولا يُشفون ! كيف وقد وعدهم الله بالإجابة ؟
إجابة الدعاء لها معنيان : الأول : القبول (أي قبول الله للدعاء لأنه عبادة ومكافأة صاحبه عليه بما يختاره الله له) والثاني : تحقيق المطلوب (الأمر الذي يطلبه الداعي) فمن حصل له أحد الأمرين فقد أجيبت دعوته.
الدعاء هو أعظم العبادات كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم "الدعاء هو العبادة" ، أجره عظيم وفوائده لا تُحصر، وكما أن الإكثار من الصلاة والصيام والصدقة والحج بإخلاص ونية صالحة تنفع صاحبها نفعاً عظيماً في الدنيا والآخرة ؛ كذلك الدعاء الخالص المتكرر تنزل على صاحبه من الرحمات والفضائل ما لا يحصيها إلا الله ، فالدعاء توفيق من الله وغنيمة في كل الأحوال ومهما صغرت الحاجات في عين المؤمن .
"﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ الْآيَةَ، رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ" ثُمَّ قَرَأَ "وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ" ... فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ. وَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَحِّدُونِي وَاعْبُدُونِي أَتَقَبَّلْ عِبَادَتَكُمْ وَأَغْفِرْ لَكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ وَالسُّؤَالُ. قَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ" (تفسير القرطبي)
إذا قبل الله دعاء المؤمن أجابه بأحد ثلاثة أمور (حسب حكمته العظيمة فهو أدرى من عبده بما يصلح له ، وهو سبحانه أرحم بعبده من نفسه) : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذا نكثر، قال الله أكثر. رواه أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. أي قالوا نكثر من الدعاء ما دام أنه مكسب من كل الوجوه ، فقال عليه الصلاة والسلام : الله أكثر ، أي يعطيكم أكثر وأكثر .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا. ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، أو يستعجل. قالوا: يا رسول الله؛ وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي فما استجاب لي. قال الشيخ الألباني: صحيح دون قوله : وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا.
المريض الذي يسأل الله الشفاء بصدق وضراعة ؛ إما أن يُعجل الله له دعوته فيشفيه من مرضه ، أو يدخرها له يوم القيامة فيعظم له الأجر بسبب الدعاء ويرفع منزلته ، وعندها يفرح بذلك أكثر من فرحه بالشفاء في الدنيا ، أو يصرف عنه سوءاً كان سيصيبه في دينه أو دنياه .
إذا أراد الله تعجيل الدعوة بالشفاء من المرض صار ذلك في الوقت الذي يريده الله بالكيفية التي يريدها الله وفق ما تقتضيه حكمة الله البالغة . أجاب الله دعوة نبيه يعقوب عليه السلام وفرج كربته بعد سنوات طويلة فرد عليه بصره وولده يوسف عليه السلام ، ومن تأمل سورة يوسف أدرك بعض الحكم العظيمة في سنة الابتلاء وتأخير إجابة الدعاء .
العجلة من طباع البشر، ويرون أن تأخر الإجابة يعني انعدامها ومن ثم يتوقف الكثير عن الدعاء فيحرمون أنفسهم خيرات الدعاء وقد تكون الإجابة مرتبطة باستمرارهم .
●●●
الأحاديث المشتملة على الأدعية والرقية الشرعية فيها وعد بالشفاء ، فلماذا لا يُشفى بعض المرضى مع الرقية ؟
قال صلى الله عليه وسلم : ما مِن عبْدٍ مُسلمٍ يعودُ مريضًا لم يحضُرْ أجَلُه، فيقول سبْعَ مرَّاتٍ: أسأَلُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أنْ يشفِيَك، إلَّا عُوفِيَ. رواه أبو داود والترمذي .
قال المباركفوري في مرعاة المفاتيح : والحصر غالبي أو مبني على شرط لابد من تحققه. (أي تحقق الشفاء بهذا الدعاء المبارك يكون غالباً ولا يلزم أن يكون في كل مريض ، بحسب ما تقتضيه حكمة الله وتقديره ، أو أن الشفاء مقيد بشرط متعلق بالمريض في إيمانه أو الحقوق التي عليه) .
قال الإمام العيني في شرح سنن أبي داود : (لم يحضر أجله) يستفاد من هذا القيد أن المريض الذي حضر أجله (أي انتهت مدة الحياة التي كتبها الله له) لا يفيده شيء في تأخير عمره، ولكن العائد إذا قرأ عنده شيئا يفيده في الآخرة، ويفيد القارئ أيضا، وربما يسهل عليه مرضه، ويهون عليه سكرات الموت ببركة القراءة والدعاء.
وقال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: لا يلزم أن يُعافى في وقت الدعاء، بل يعافى فيه أو بعده.
الرقية الشرعية دعاء بالشفاء ، وينطبق عليها ما قيل في الدعاء ، فهي خير وبركة في كل الأحوال .
●●●
اللهم اهدنا صراطك المستقيم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
جزاك الله خيرا وبارك فيك
ردحذفوزادك الله علما ونفع بك
ماشاء الله .. استقصاء لموضوع التداوي بالعسل يزول به كثير من الاشكالات المتصلة به
ردحذفأحسنت أبا عبدالرحمن
ردحذفزادك الله من فضله علما و تواضعا و رفعة في الدنيا و الآخرة و نفع بك. آمين