وانتحر سوبرمان !
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
في القرن السابع الميلادي كان المسلمون يعيشون أجمل الفترات في ظل النبوة المحمدية والخلافة الراشدة . عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر والقدر خيره وشره تنسجم مع الفطرة ، وتفسر الإنسان والكون والحياة تفسيراً منطقياً سهلاً ، وتساعد الإنسان على تجاوز المحن والمصائب ، والذي لا يدركه المحسن في الدنيا يجده موفوراً في الآخرة ، والمسيء الذي يفلت من العقوبة في الدنيا يجد جزاء إساءته في الآخرة . شرع لهم الإسلام الكسب وعمارة الأرض ولم يحرمهم من التلذذ بالطيبات. كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون أكثر الناس تمسكاً بالتعاليم والأخلاق القرآنية ، فتجسد العدل وحُفظت الحقوق ، وبرزت معاني الأخوة والتعاون دون طبقية أو عنصرية . الناس أحبوا الله سبحانه لأنهم عرفوا جمال وعظمة صفاته من القرآن والسنة ، ولأنه ليس بينهم وبينه واسطة في العبادة والدعاء والتوبة من الذنوب ، ولأنهم يرون نعمه ، ويدعونه فيستجيب دعواتهم ويفرج كرباتهم ، وإذا تأخر الفرج يرون أثر الطمأنينة التي ينزلها في قلوبهم بسبب الدعاء واللجوء إليه ويقينهم بالعوض في الحياة الآخرة ، وأحبوا دينه وشريعته بسبب حسن تمثيل النبي عليه الصلاة والسلام وخلفائه للدين والشريعة .
بالمقابل كانت أوروبا تخيم عليها ظلمات الكنيسة بعد انحراف المسيحية وتحريف الإنجيل . الثالوث الذي لا يقبله العقل حل محل التوحيد ، والكنيسة هي الممثل الوحيد والمطلق للرب ، ولا يمكن الوصول للرب إلا من خلالها ، والإنسان ليس إلا نتاج خطيئة آدم الأولى (الخطيئة الأصلية) وأن تلك الخطيئة تنتقل عبر الأجيال وكل إنسان مرتهن بها وعليه السعي للخلاص من تبعتها عبر الكنيسة ، والعلم التجريبي محرم لأنه ثورة على الكنيسة ورجالها ، والعقل دوره فقط فهم ما تقوله الكنيسة ، وادعت الكنيسة أن الحياة عالمان (بفتح العين واللام) : عالم الدنيا يملكه قيصر (الحاكم) ويتصرف فيه ، وعالم الآخرة يملكه رجال الكنيسة (سُمي هذا المبدأ " ما لله لله ، وما لقيصر لقيصر" فيما بعد بالعلمانية بفتح العين) ، لكنها لم تلتزم به فتحالف رجال الكنيسة مع الحكام في صورة طغيان وفساد واستئثار بالثروات والممتلكات ، وابتدعت الكنيسة الرهبانية المفرطة التي تضمنت كبت الشهوات والزهد المذموم .
استمر الظلام الكنسي الأوروبي عدة قرون حتى كره الناس الكنيسة والدين ، وبدأت الثورة الأوروبية ضدهما في القرن السادس عشر ، وبدأت مرحلة ما يسمى بالحداثة والتنوير التي تقوم على أن المرجعية للعقل وليست للدين والإله ، وأن الإنسان هو القيمة الكبرى في الوجود بفردانيته وحريته دون تمييز بين الأعراق والألوان والأديان ، ونبذ فكرة الخطيئة الأولى وإرجاع فكرة الخلاص لكل فرد حسب ما يراه ويعتقده بدون عقدة الذنب ، والعودة بحزم للعلمانية بإبعاد الدين ورجاله عن كافة شئون الحياة ، واعتماد الديموقراطية كمنهج سياسي ، واعتماد العلمية (بكسر العين) من خلال البحث المادي التجريبي لتفسير الأشياء والحياة وتحسين جودتها وكشف سر المرض والموت والتغلب على المعاناة وتيسير سبل الراحة والسعادة ، ورأى الفلاسفة وعلماء الحياة والطبيعة أن العقل والعلم التجريبي سيكتشفان المجهول ويصلان لليقين فيجيبان على الأسئلة الوجودية ( من نحن ، وكيف وُجدنا في الحياة ، ولماذا وُجدت المخلوقات ، ولماذا يوجد الشر ، ولماذا تحدث الآلام والمصائب وكيف نتغلب عليها ونصنع السعادة لأنفسنا بأنفسنا في الدنيا ، ولماذا نختلف ونتقاتل وكيف نتعايش في سلام دون صراع ) دون الحاجة للدين والإله !
تحركت عجلة التطور المادي الأوروبي ، وتنفس الناس هواء الحرية بعيداً عن الكنيسة ، وترادفت الاكتشافات العلمية ، وانطلق الفلاسفة وأهل الفن والأدب ينسجون الأفكار والتصورات بحرية مطلقة.. وفي غمرة تلك المرحلة تسرب الغرور إلى العقل الأوروبي الحداثي فأعلن بعض الفلاسفة أن الإله قد مات ووُلد سوبرمان (الرجل الخارق) ! ، وانتشر هذا المفهوم في الأوساط الحداثية .
سوبرمان هو الإنسان الحديث الذي سيحقق بقوة العقل والمعرفة طموحات الحداثة والتنوير في الحياة الدنيا بدون إله وبدون انتظار الحياة الآخرة !.
لكن تلك الغمرة لم تدم !!
ابتكر سوبرمان المكائن والآلات لخدمة الإنسان لكنه ابتكر أيضاً المواد المخدرة وأسلحة الدمار الشامل التي تهدد البشرية بأسرها وأدخلت الإنسان في حربين عالميتين قتلت عشرات الملايين وتركت مئات الملايين في معاناة مريرة من آثارهما .
عالج سوبرمان الكثير من الأمراض لكنه تسبب في ظهور أمراض كثيرة لم تكن معروفة من قبل نتيجة التلوث والحروب وكثرة الكيماويات والفوضى الجنسية .
صنع سوبرمان أضخم سفينة لنقل الركاب ، سماها "تايتانيك" وتعني المارد الضخم واعتبرها "غير قابلة للغرق" لضخامتها وإتقان تصميمها المقاوم للغرق ، فغرقت في أول رحلة لها ! (المصدر) ، وانفجر مفاعل تشيرنوبل النووي السوفيتي ، وانفجر المكوك الفضائي الأمريكي تشالنجر (المتحدي) ضمن كوارث أخرى لم يحسب سوبرمان حسابها .
حقق سوبرمان حريةً سياسية للأفراد والأحزاب من خلال الديموقراطية لكنه مكّن بالديموقراطية أيضاً هتلر والنازية من الوصول للحكم في ألمانيا وتوريط أوروبا والعالم ، ولم يتمكن سوبرمان من منع موسليني والفاشية من الوصول للحكم في إيطاليا .
كتب سوبرمان العشرات من الفرضيات لتفسير الكائنات الحية وبداية الإنسان ونهايته ، كلما فشلت فرضية استبدلها بأخرى ، حتى رأى أن فرضية دارون لا بأس بها ، ولما عجز عن إثباتها بالأحافير والمختبرات أعلن : "نظرية دارون لا يمكن إثباتها لكنها صحيحة !" وبعد أن كان يحارب الاستسلام للإله الخالق ويعتبره خرافة ، استسلم لدارون دون دليل علمي !
وضع سوبرمان القوانين ونجح في تطبيقها على الأغلبية وظن أنه قادر على تحقيق العدالة في الدنيا ، لكن صار الناس يعانون من الحيرة برؤية المجرمين يفلتون من العقوبة بقوتهم واحتيالهم على القوانين ويتمتعون بالمال والحرية ، في حين أن ضحاياهم من الأبرياء يعانون المرارة والألم ، ويتساءل الناس : أين العدالة مادام أنه لا يوجد آخرة ؟!
حقق سوبرمان نجاحاً في فهم جزءٍ من العقل والنفس البشرية ، وقدم أساليباً مفيدة في العلاج النفسي والسلوكي ، ونجح في ابتكار وسائل جذابة للترفيه والمتعة ، لكنه تسبب في الفراغ الروحي ، ولم يتمكن من الوصول لليقين ، بل زادت الشكوك والحيرة حول معنى الحياة والأسئلة الوجودية ، ولم تتحقق السعادة المتوقعة بل زادت الضغوط النفسية وارتفعت نسب الاكتئاب والقلق ، وتفاجأ الجميع بزيادة حالات الانتحار مع الأزمات ، ومن بين الذين انتحروا هتلر بعد هزيمته ، وكان انتحاره بمادة السيانيد السامة التي ابتكرها سوبرمان !
انتحر عدد كبير من العلماء البارزين في علوم الطبيعة والرياضيات والكيمياء والطب والفلسفة خلال القرنين الماضيين ، أربعة منهم حاصلون على جائزة نوبل (المصدر) ، والكثير منهم ينتحر بسبب محنة يتعرض لها كعدم تقدير إنتاجه العلمي بالطريقة التي يتوقعها .
في أمريكا وحدها في كل سنة تُسجل أكثر من مليون ونصف محاولة انتحار، وينتحر فعلاً قرابة خمسون ألفاً ، وزادت نسبة الانتحار 37% خلال العقدين الماضيين (المصدر) ، ومن الملفت للنظر أن نسبة الانتحار لدى مشاهير الفن والمغنين والموسيقيين أعلى من غيرهم وكان من المفترض أنهم يصنعون السعادة ! (المصدر) .
لوحظت نفس الزيادة 36% على مستوى العالم ، كما لوحظ في عدة دراسات أن الإيمان بالرب يقلل نسبة الانتحار، وأن نسبة الانتحار تزيد في الدول الملحدة بشكل رسمي (المصدر) .
"لعنة سوبرمان" تعبير يستخدمه بعض الكتاب لوصف المآسي التي تعرض لها بعض المشاركين في مسلسلات وأفلام "مغامرات سوبرمان" ، ومن أشهر تلك المآسي انتحار الممثل الأمريكي جورج ريفز الذي مثل شخصية سوبرمان ! (المصدر) ، وانتحار الممثلة مارجو كيدر التي لعبت دور حبيبة سوبرمان وكان انتحارها بجرعة زائدة من المخدرات خلطتها بالكحول (المصدر) . وتلك الأعمال الدرامية وقبلها الرسوم الكرتونية لشخصية سوبرمان الخيالية يعتقد كثير من النقاد الغربيين أنها مستوحاة من فكرة سوبرمان عند فلاسفة الحداثة اللادينية (المصدر) .
فترة ازدهار الحضارة المادية الغربية قابلها انحطاط مؤلم في العالم الإسلامي ، فسدت العقائد مع انتشار الفرق الباطنية والخرافات الصوفية والفلسفات المستوردة ، وتراجعت الأخلاق الإسلامية وقلّ الذين يمثلونها في الواقع ، وانقسمت الدولة الإسلامية إلى دويلات متفرقة ومتعادية ، وانتشر الجمود العلمي والتعصب المذهبي .. حتى أخطأ بعض المفتونين وظنوا أن الحالة الإسلامية تشبه عصور الظلام الكنسي وأن الحل يكمن في متابعة سوبرمان ! ، وأن الإسلام والقرآن لن يقوم لهما قائمة !
أيضاً لم يدم ظنهم المفتون ، لأن الله سبحانه قد تكفل بحفظ دينه ، وحفظ القرآن من التحريف والتبديل .
رجع كثير من المسلمين إلى القرآن الكريم من جديد بعد أن هجروه زمناً طويلاً ، ووجدوا في تلاوته واستماعه بتدبر اليقين والسكينة والطمأنينة التي ينشدها العالم .
ورجع العقلاء في الغرب إلى القرآن الكريم فوجدوا حل الأزمة وإجابة الأسئلة الوجودية المحيرة ، ووجدوا الطمأنينة بذكر الله حين تنزل المصائب ، وأدركوا أن علاج الحيرة ومواجهة الأزمات يكون بالفرار إلى الله بدعائه والتضرع إليه وطلب الهداية منه ، وليس بالفرار منه والتكبر عليه كما صنع سوبرمان ، وعرفوا أن الله سخر لهم المخلوقات وأرشدهم للسير في الأرض وعمارتها ، وأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الفواحش والخبائث رحمة بهم وإكراماً لهم ، وأن باب التوبة مفتوح مهما كثرت الذنوب وعظم الكفر والإلحاد .
أدرك الجميع حين قرأوا القرآن بتدبر واستمعوا لتلاوته بتمعن أن سوبرمان خدم الحياة الدنيا الظاهرة وخدم الجسد البشري والحيواني ، لكنه أصابه الغرور وضل الطريق حين نسي الله وكره الدين ، وعبّر عن تلك الكراهية بإنكار الخالق سبحانه ، وألبس ذلك الإنكار لبوس العلم التجريبي والعقل المنطقي ، وأنكر الآخرة ليتخلص من تبعة الحساب يوم القيامة .
انتشرت ترجمات القرآن الكريم وصارت السبب الأول لانتشار الإسلام في الغرب ، وصار الإسلام أكثر الأديان انتشاراً في العالم .
بقي القرآن رحمة وهداية وشفاء .. وانتحر سوبرمان !
مقالة رائعة .. جزاكم الله خيرًا
ردحذفوإياكم رعاكم الله
حذفسلم بنانك ولا انقطع مدادك .. وصف دقيق وتشخيص مبسط واضح لمسير الفكر الإنساني في ظل الدين الحق وما يعترى هذا الفكر من ارتباك حين يبنى تصوراته بعيدا عن المصدر الرباني للحق والحقيقة .
ردحذفحياك الله أستاذي وأخي وشكر الله لك
حذفجزاك الله خيرًا اوخيي
ردحذفما شاء الله، اللهم بارك
مقال مؤثر، وعميق .. نفع الله به، وزادك من فضله وحفظك من كل سوء .
وإياك أخيتي الغالية
حذفسرد جميل
ردحذفوأفكار مترابطة
وتحرير لازم لمرحلة عاصفة
جزاك الله خير د. أحمد
وإياك ، رعاك الله وسددك
حذفجزاك الله خيرا مقاله رائعة تحمل الكثير من الحقائق التي يجهلها الجيل الجديد
ردحذفوإياك ، أسأل الله القبول والمغفرة
حذفمعلومات قيمة ومفيدة ..جزيتم خيرا ونفع الله بكم
ردحذفوإياكم، حفظكم الله ورعاكم
حذفمقال جميل و موزون ولا فيه حضوة في النفس أو غاية شخصية ، رصين متماسك من أوله لآخره بتسلسل وسرد مترابط سهل الفهم نابع من عقيدة صافية نسأل الله لنا وله الثبات الى الممات والتزود بالطاعات
ردحذفسعد الصقر
شكر الله لك أستاذ سعد وجزاك خيرا ، دمت طيباً موفقاً
حذفالله يحفظك دكتور ممكن استشاره ( ايميلك؟ )
ردحذف