منتصف العمر بين ابتهال الصالحين وأزمة الغربيين
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
هل ما حققته في حياتي يستحق ما بذلته من جهد وعناء ، وهل نفعتني طموحاتي أم ضرتني ؟
هل كان اختياري لزوجتي / زوجي موفقاً ، وهل كان إنجابنا للأطفال قراراً حكيماً ؟
أليس من حقي بعد السنوات التي بذلتها من أجل غيري أن أهتم بنفسي وأشبع رغباتي ؟
هل ما بقي من حياتي هو معاناة السكر والضغط والمفاصل وبداية الموت ؟
ألا يجب أن أجدد شبابي فأهتم أكثر بزينتي وهندامي وصحتي وأفعل ما يفعل الشباب ؟
ألم يأن الأوان لأمضي بقية حياتي على سجادة الصلاة وبين دفتي المصحف استعداداً للقاء الله عز وجل ؟
هل أكرس بقية عمري لأسرتي ، وأرمم علاقاتي مع أرحامي وأصدقائي القدامى أم أستعيد هواياتي التي أهملتها بسبب الانهماك في مشاغل الحياة ؟
أزمة الغربيين
هذه المراجعات وغيرها من الخواطر ترد على بعضنا رجالاً ونساءً في مرحلة الرشد ما بين الثلاثين والستين من أعمارنا . سماها علماء النفس الغربيون "أزمة منتصف العمر" وتظهر عندهم ما بين الخامسة والثلاثين إلى الخامسة والأربعين ، ولا تقف عند أسئلة الماضي والمستقبل بل تشمل الهدف من الحياة وأزمة الهوية : "من أنا و ماذا أريد وما الغاية من وجودي.." .
كثير لا تمر بهم هذه الأزمة في الغرب ، ولذلك اعتبرها بعضهم أسطورة ومنتج ثقافي أمريكي ، بينما رأى آخرون أنها موجودة فعلاً لكنها تتفاوت في حدتها ومدتها وسنوات ظهورها، فالبعض يعيشها في أوائل الثلاثين وآخرون بعد الخمسين ، والبعض يعيشها ثلاث سنوات فقط بينما تستمر مع آخرين أكثر من عشر ، والبعض يعيشها مع نفسه فيحبذ الخلوة ويطيل التأمل بينما تظهر على البعض الآخر أزمات زوجية وعائلية وصراعات في العمل .
هل هي موجودة في المجتمع المسلم ؟
لاحظ بعض الاختصاصين أن الأزمة لم تظهر عند دراستهم لعينات من المجتمع المسلم ، ويرى البعض أنها موجودة لكن طبيعة عدم الإفصاح عن المشكلات والهموم "كل شيء على ما يرام" في مجتمعاتنا أعطت الانطباع بعدم وجودها ، واستدلوا على وجودها بتصرفات بعض الرجال والنساء في هذه المرحلة بشكلٍ لم يكن معهوداً منهم .
ما الذي يحدث في هذه المرحلة ؟
هذه المرحلة من العمر يتفاعل فيها عاملان مهمان : الأول هو النضج العقلي وتحقيق الاستقرار المالي والأسري ، والثاني هو رتابة الروتين وبرود العواطف الزوجية وبداية الضعف الجسمي ، والتغير الهرموني (النساء خصوصاً)، والأمراض العصرية المزمنة ، وقرب التقاعد مع زيادة المسئولية تجاه مشكلات الأولاد المراهقين واحتياجات الكبار من زواج وكسب عيش ..
إذا كان العامل الأول هو الغالب على نفسية الشخص وتفكيره فإن هذه المراجعات تقوده في اتجاه نافع مع نفسه وأسرته والناس من حوله ، أما إذا غلب العامل الثاني فإن المراجعات تصبح أزمة فعلية وقد ينتج عنها سلوكيات ضارة وغير مقبولة : إما انطواء وتحسر على الماضي الجميل ، واجترار الأخطاء ، وإحباط من واقع الناس وانتظار مؤلم لموتٍ بطيء ، أو على العكس : نزوات وتصابي ومغامرات غير مدروسة وإهمال للمنزل والأسرة .
مراجعات منتصف العمر في ضوء القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم
﴿ حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحࣰا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤۖ إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ ١٥ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَیِّـَٔاتِهِمۡ فِیۤ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَعۡدَ ٱلصِّدۡقِ ٱلَّذِی كَانُوا۟ یُوعَدُونَ ١٦﴾ [الأحقاف ١٥-١٦]
يبدأ الأشد وهو كمال القوة الجسمية والعقلية في مرحلة الشباب ويتزايد حتى يستقر في مستوى معين ثم إذا بلغ الأربعين بدأ الضعف ، وهنا يراجع المؤمن الموفق حاله بين الماضي والمستقبل :
قال ربِّ : البداية هي الابتهال إلى الله ، قبل التقييم والنقد والتخطيط وكثرة التفكير، فنحن من الله وإلى الله .
أوزعني : أي ألهمني ، فكل خير وتوفيق يعيشه المؤمن إنما هو هبة من الله .
أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ : أفضل مراجعه يعيشها المؤمن في منتصف العمر أن يستشعر نعم الله عليه في الماضي والحاضر ، وأن يوقن أن ما حصل له في الماضي كله نِعَم ، فأبواه اللذان أنعم الله عليهما بنعمة الإسلام ونعمة المأوى والمطعم والملبس كانا نعمة في حقه ، وأن البديل الذي قد يتمناه بدلاً عنهما لا يصلح له ولا يناسبه . ويوقن أن دراسته ووظيفته نعمة ، وأن البديل الذي يتحسر على فواته قد يكون ضاراً في حقه . ويوقن أن زوجته (زوجها بالنسبة للمرأة) نعمة ، وأن البديل الذي يفترضه قد يكون وبالاً وقد لا يكون لديه الأولاد الذين ينعم بهم الآن. ويوقن أن أولاده نعمة يتمناها الكثيرون ولكنه لا يشعر ، وكذلك مسكنه ومركبه وموطن إقامته ..
استشعار النعم وتعدادها وشكر الله عليها يورث سكينة القلب وراحته ، بدلاً من الألم والحزن الذي يتركهما التحسر على فوات ما فات .
وأن أعمل صالحاً ترضاه : وألهمني يا رب عمل الصالحات ووفقني لها ويسرها لي ، فالعمل الصالح هو أعظم العطايا التي يمن الله بها على عبده في هذه الفترة وكل فترة ، سواءً كان العمل قاصراً على النفس (صلاة - إتقان العمل وتطييب المكسب - قرآن وذكر- حج وعمرة..) أو متعدياً للغير (دعوة إلى الله ، بر الوالدين وصلة الرحم ، إحسان العشرة الزوجية مع المسامحة والصفح المتبادل ، رفق بالأولاد وتحبيبهم لله والعمل الصالح ، تعلم العلم وتعليمه ، إحسان للضعفاء والمحاويج..) ، والعمل الصالح ركنٌ من أركان شكر النعم التي استشعرها ، والعمل الصالح خير رفيق يصحبه المؤمن في النصف الثاني من حياته ، يحدوه الشوق للقاء الله حباً له ، لا إحباطاً من الحياة ولا جزعاً من مصائبها .
وأصلح لي في ذريتي : قرة عين المؤمن أن يرى ذريته صالحين في أنفسهم نافعين لوالديهم وأهليهم . اشتكى رجلٌ من ولده لأحد الأئمة ، فقال : استعن عليه بهذه الآية . أي أكثر من ترداد هذا الدعاء ، وكان بعض الصالحين يدعو من تجاوز الأربعين لتكرار هذا الدعاء الوارد في الآية الكريمة ، ويقول : رأيت أثر ذلك .
إني تبت إليك : مما سلف وكان ، وهذه الإنابة إلى الله تجديد للعهد معه سبحانه بالبعد عن الآثام بعد أن خف وهج الشهوات والرغبات .
وإني من المسلمين : إعلان الاستسلام لله وإخلاص التوحيد له ، إعلان مبني على الوعي الكامل (في فترة النضج وكمال الأشد وإلى آخر العمر) بأن الله سبحانه هو الإله الحق الذي لا ينبغي الاستسلام والانقياد التام إلا له ولدينه وشريعته سبحانه .
أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ : الأحسن هنا بمعنى الحسن أي كل عمل صالح مهما كان يسيراً . أثناء المراجعات يتذكر المؤمن أحسن أعماله ويتمنى أن كل ماضيه من جنسها ، فتأتي البشارة من الكريم سبحانه أنه يتقبل أعماله الصالحة كلها ويعامله بها ، بل ويضاعفها ثم يزيده سبحانه من فضله فوق عمله الصالح كما قال سبحانه : ﴿لِیَجۡزِیَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ وَیَزِیدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ یَرۡزُقُ مَن یَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ﴾ [النور ٣٨] وقوله سبحانه : ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةࣰ یُضَـٰعِفۡهَا وَیُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾ [النساء ٤٠]
وَنَتَجَاوَزُ عَن سَیِّـَٔاتِهِمۡ : بشارة أخرى كفيلة بمسح الذنوب وتخفيف الآثار المحزنة للأخطاء . اجترار أخطاء الماضي باستمرار ضار ويورث الإحباط واليأس ، وكلما تذكر المؤمن أخطاء الماضي بادر للاستغفار وقاوم حزن الخطأ بفرحة التجاوز وسعة المغفرة.
في أصحاب الجنة : لست وحدك ! ستكون مع المؤمنين الذين يحملون نفس صفاتك ، وستدخل الجنة في جملتهم . لهم مراجعات قادتهم للشكر ، ولهم أعمال صالحة قبلها الله وضاعفها لهم ، ولهم سيئاتٌ تجاوزها الله عنهم ، بدءاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة . لا تستوحش ولا تمل من بقية الطريق فالسابقون هناك أمامك قد وصلوا وسعدوا بجزاء أعمالهم .
وَعۡدَ ٱلصِّدۡقِ ٱلَّذِی كَانُوا۟ یُوعَدُونَ : دخول الجنة وقبول الصالحات وغفران السيئات إنجازٌ لوعد الله الصادق الذي وعدهم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله .
أفضل مجموعة تعيش فترة منتصف العمر هم الصالحون الذين أنعم الله عليهم بالإيمان الكامل والعمل الصالح والتوفيق لإعطاء كل ذي حقٍ حقه ، " إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" رواه البخاري . وحيث أن الكمال عزيز وحدوث الأخطاء أمر حتمي فالموفق الذي يستدرك بقية حياته مبتدئاً بهذا الابتهال العظيم في الآية الكريمة ، يردده ويستلهم منه خارطة الطريق ، والله الموفق إلى سواء السبيل .
***
مراجع:
* علم نفس المراحل العمرية ، أ.د. عمر المفدى
* أزمة منتصف العمر وعلاقتها بالسعادة الزوجية لدى المعلمين والمعلمات (دراسة) ، مجلة : دراسات عربية في التربية وعلم النفس ، د.نايف الحربي ، أ. نهال الحريقي
* منتصف العمر أزمة أم نعمة (مقالة) د. جاسم المطوع
* تفاسير الآية الكريمة (البغوي - القرطبي - ابن كثير)
رااااااااائع
ردحذفسدد الله خطاك اباعبدالرحمن ونفع بك ورفع قدرك وأعلى شانك. 🤲
ردحذف