قدوات صالحة في العمل الطبي.. مواقف مؤثرة وتجارب واقعية


قدوات صالحة في العمل الطبي

مواقف مؤثرة وتجارب واقعية

 

قال بعض السلف : "القصص جندٌ من جنود الله" لأثرها البالغ في تزكية النفس وغرس القيم وتصحيح السلوك ، وكثيرٌ من أعمال البر لا يشعر أصحابها بأثرها المبارك على من حولهم الذين يقتدون بهم ، وسيجدون أعمالهم في ميزان حسناتهم .. إنها الدعوة الصامتة ونشر الخير بمجرد القدوة .

طلبت من بعض إخواني في الله من الزملاء الاستشاريين إفادتي بما تيسر لديهم من المواقف التي عايشوها وتركت في أنفسهم ذلك الأثر المحمود ، ونشرتها هنا (بحسب وصولها إلي زمناً) تعاوناً على البر والتقوى ، ونشراً للعلم النافع ، وسأترك خانة التعليقات متاحةً لزملائنا في القطاع الصحي للمساهمة بما لديهم .. بارك الله لنا ولكم فيما نقرأ ونكتب ، والله ولي التوفيق .

***


من الدكتور مبارك الشمراني ،، استشاري الأمراض المعدية لدى الأطفال

 

دُعيت إلى حفل تكريم ممرضة فلبينية أسلمت ، فهنأتها وسألتها عن سبب إسلامها ، فقالت : لفت نظري حسن خلق بعض الأطباء المتدينين والتزامهم بالعمل وحرصهم على المرضى ، فبحثت عن علاقة ذلك بالدين الإسلامي ، وقرأت وسألت حتى انشرح صدري للإسلام .

 

ضعف التزام بعض الطبيبات المتخرجات حديثاً بالحجاب الشرعي ، إلا أن طبيبةً التحقت ببرنامج الزمالة (تعادل الدكتوراه) لدينا لفتت الأنظار بتدينها وهيبة حجابها الساتر الفضفاض وسلوكها المميز ومستواها العلمي الرفيع فكانت درةً بين أقرانها وقدوةً صالحةً لمن حولها . قد لا تشعر هي بأثرها الإيماني على الجميع ، لكنها جعلتنا دائماً ندعو لها بالثبات والمزيد من التميز. أتمت برنامج الزمالة بنجاح والتحقت حالياً ببرنامج التخصص الدقيق .

 

أصيب طفل يمني بالتهاب حاد شديد في عضلة القلب ، أُدخل على إثره للعناية المركزة ، وكنت أخصائياً في القسم وقتها ، كانت أمه حوله وأخبرها أطباء القلب أن الالتهاب شديد وعضلة القلب ضعيفة للغاية وكل شيء متوقع ! . كانت الأم تحضر بجانبه وتصلي وتدعو له وترقيه ، وفي إحدى الساعات تباطأت ضربات قلبه وصار يصرخ "أنا بأموت .. أنا بأموت" ، هرعنا إليه وحاولنا تطمينه ووضعناه على جهاز التنفس الاصطناعي ، توقف القلب للحظات ثم عاد بحمد الله للخفقان بعد أدوية الإنعاش  ، وأمه كانت تصلي قريباً منه فلم ترتبك بل استمرت في صلاتها بسكون ، وبعد فراغها من الصلاة وفراغنا من إنعاشه واستقرار حالته ، قالت لي بثقة : يا دكتور ليس المطلوب منكم إلا الذي في وسعكم ، أما أنا فقد دعوت الله أن يشفيه ، ولن يخيب الله دعائي وسيرده كما كان يمشي في عافية . انتهت فترة عملي بقسم العناية والطفل ما زال منوماً بها ، وبعد شهرين استوقفني رجل ومعه طفل بأحد الممرات ، وقال للطفل : سلم على رأس عمك ! لم أعرف الرجل لكن أشباه الطفل ليست غريبة ، فقالت أمه : هذا الذي كان معه التهاب في القلب في قسم العناية شفاه الله وعافاه ! . لا أنسى أثر الموقف عليّ ، وأثر كلماتها ويقينها بالله سبحانه .

 

 امرأة كبيرة في السن أُدخلت المستشفى لإجراء عملية جراحية ، وعندما جاء الفريق الذي سينقلها لغرفة العمليات لبست لبس العملية وتحجبت بحجابها الكامل وتلففت ببطانية ، وقالت للذي سينقلها : لا ترفع عني البطانية إلا بعد التخدير فلا أريد أن ينكشف من جسمي شيء ! قال الذي حضر الموقف : دمعت عيني من حرص هذه العجوز على كمال الستر ، وعندما وصلت غرفة العمليات قالت : هل وصلنا .. أتشهد يا ولدي ؟ (تقصد النطق بالشهادة قبل التخدير وفقدان الوعي) ، فقال : تشهدي وتوكلي على الله ! . درس مهيب في سلامة الفطرة والارتباط دائماً بالله عز وجل والحرص على الستر.

 

أحد زملائي ، أول ما بدأنا برنامج الزمالة ونحن أطباء مقيمون كان حريصاً على ركعتي الضحى ، يتحين لها الفرصة فيصليها دون إخلال بالعمل وخدمة المرضى ، لاحظته الآن وهو استشاري في الطوارئ على نفس عادته الطيبة .. يتحين الفرصة فيصليها ! . من اهتم لطاعةٍ من الطاعات سيجد لها الفرصة والوقت !

 

تأثرت بأحد الأطباء ، منحه الله حب نفع المرضى وقضاء حوائجهم وبذل الوقت والجهد في تيسير أمورهم ، وفتح الله له في ذلك ما لم يفتح لغيره . صرنا نغبطه على كثرة دعاء الناس له ، ولاحظنا بوضوح كيف اكتنفته السعادة من كل جانب !.

 

أحد الاستشاريين يبدأ تدريسه لطلاب الطب (الذين يفدون للمستشفى للتدريب الاكلينيكي) بتذكيرهم بأهمية النية الصالحة والإخلاص لله في تعلمهم لمهنة الطب الشريفة فالنية الصالحة تقلب العادات إلى عبادات ، وليس بعد علم الشريعة أشرف من علم الطب !.

 

 تأثرنا بطبيب استشاري لا تظهر عليه علامات التدين الظاهرية ، لكنه كان حريصاً على صلاة الجماعة ولا يكاد يفوته الصف الأول ، ودأب على ذلك حتى تقاعد فكان نعم القدوة في الحضور للمسجد .

 

تأملت في أحد الزملاء : ما سبب محبة الناس له وانجذابهم إليه من أطباء وممرضين ومراجعين ؟ فوجدت الجواب في حسن خلقه ، وتذكرت لما سُئِلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَما أكثرُ ما يُدخلُ الناسَ الجنةَ ؟ قال : تقوَى اللهِ ، وحُسْنُ الخُلُقِ !

 

أحد الاستشاريين كان يذكرنا باحتساب نية عيادة المرضى عندما ندخل عليهم لمعالجتهم ، ويذكرنا بالفضل العظيم لنية عيادة المريض ، ثم رأيت له تغريدات في تويتر يذكر زملاءه الأطباء بذلك ، فأدركت أن هذه الخصلة الطيبة صارت سجيةً له ، ومن محبته الخير لزملائه صار ينشرها بينهم .

 

أثناء الدراسة بكلية الطب ، زارنا الداعية الأمريكي الشهير الشيخ حذيفة ، واشتمل حديثه على معاناته قبل الإسلام حيث طرده أبواه من البيت ، وسبب إسلامه حيث وقعت عينه على رسالة مترجمة صغيرة الحجم للشيخ ابن باز رحمه الله في تفسير آية الكرسي فتأثر بها وقرر المجيء إلى السعودية لمقابلة الشيخ وإعلان الشهادة على يديه رحمه الله ، وتحقق له ذلك ثم جند نفسه لتعلم الإسلام والدعوة إليه ، فلا يحتقر المسلم أن يهدي الكتب إلى غير المسلمين ، أو يضعها في أماكن الانتظار !

 

بعض الزملاء والأساتذة الاستشاريين حباهم الله ميزة خاصة وهي القوة في الحق وعدم الخجل من تقديم النصيحة وإنكار المنكر ، ودائماً أتذكر موقف أحد الأساتذة في كلية الطب حيث دخلنا المصعد فدخلت معنا طبيبة متبرجة ومتعطرة ، فقال لها : "يا أختي .. أنتِ تمثلين دينك وبلدك فكوني قدوة صالحة وتمسكي بالحجاب الشرعي .." فكان يأمر بالمعروف بالحسنى ، وينهى عن المنكر دون أن يتسبب في منكر ، ويلقي الكلمات المؤثرة ، وداوم على ذلك حتى توفاه الله .

 

كنت في العيادة ، وأحد المراجعين يسألني بقلق وعيناه مغرورقتان بالدمع عن نتيجة فحص فيروس الإيدز لطفله ، فلما أخبرته أنه سليم خرّ ساجداً في العيادة وأجهش بالبكاء ، وقال لي : عصيتُ الله وكنت أمارس فاحشة الزنا فأصابني فيروس الإيدز ثم نقلته لزوجتي الطاهرة العفيفة ، التي صبرت واحتسبت ، وخشينا على الطفل في بطنها ، فالحمد لله الذي سلمه وأعاهد الله على التوبة النصوح . كان الموقف بالغ التأثير على كل الذين في العيادة من مسلمين وغير مسلمين .

 

في عيادة الإيدز أيضاً ، أخبرتني أم أحد الأطفال المصابين بالفيروس ، وكانت صالحة محجبة ، أن زوجها تزوج امرأة برازيلية مصابة بالفيروس وهو لا يعرف ، فانتقل إليه ، ثم انتقل إليها ، وأُصيب الطفل أثناء الحمل ، وتقول "أنا راضية بقضاء الله وقدره ، وسأستمر في دعم زوجي ولن أتخلى عنه" . اسأل لها التوفيق وعظيم الأجر ،، وبالله التوفيق .

 

***


من الدكتور : طارق الفواز ،، استشاري الأمراض المعدية لدى الأطفال

 

نفسٌ كبيرة في جسد طفلة صغيرة

 ذات ليلة طلبت لأعاين حالة أريج ، طفلة في ربيعها التاسع تعاني من التهاب في الأنبوب الذي يفرغ السائل النخاعي من رأسها حيث أنها تعاني من زيادة السائل النخاعي من حين ولادتها . كانت غرفة المعاينة ( ما قبل التنويم ) مفتوحة فدخلت ، فإذا أريج على سريرها وبجانبها أمها في وافر سترها وإذا بأريج ترفع يديها لتغطي وجهها وتعتذر مني بلكنة الطفلة : "معليش يا دكتور المفروض إني أكون قد سترت وجهي كاملا لكن تعرف ظروف المرض " تعجبت من جودة منطقها مع صغر سنها ، جلست لآخذ تاريخ المرض لكني ما زلت في دهشتي ؛ فكيف لبنت التسع سنوات أن تقول هذه العبارة العظيمة ، وكيف لمريضة تقاسي معاناة المرض ألا تنسى سترها ناهيك أن تكون صغيرة لم تبلغ العاشرة من عمرها ثم جال فكري برهة بفتيات أكبر من عمر أريج وأوفر من صحتها تتساهل إحداهن بحجابها بل تتفنن في اظهار مفاتنها !!

لم تنته قصة أريج فبينما وأنا آخذ تاريخ المرض من أمها كانت أريج تتمتم بكلمات وترجع لأمها بين فينة وأخرى لتسألها ، فسألت امها : ما تقول أريج ؟ فقالت : إنها تقرأ على نفسها وتقول بعض الأذكار فإذا نسيت شيئا سألتني . سبحان الله أهذه عمرها تسع سنين ؟ سؤال دار في خيالي لكن : المرء بأصغريه قلبه ولسانه !!

لم تنته قصة أريج بعد ، فقد جاءت إحدى الطبيبات لتخبرها أنها ربما تحتاج لعملية تغيير الأنبوبة التي في رأسها وتقول لها ملاطفة لها : لعلك يا أريج تحبين أن يكون أبوك بجانبك وأنت في هذا الموقف ؟ فقالت أريج للطبيبة - بذكاء ايماني قل أن يوجد في مثيلاتها وهي تقدِّر ( بتشديد الدال) جلوس أمها بجانبها - : لا يا دكتوره ، ألم تسمعي إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أحق بصحبتي ؟ فقال : أمك ثم أمك ثم أمك ". 

قالت لها الطبيبة : ما شاء الله يا أريج تقرأين - وكان معها كتاب تقرأه - فقالت أريج (بلهجة الصغيرة): نعم أحسن من صوت التلفاز . يعني أحسن من أن أنشغل بصوت التلفاز ..

كل هذا الكلام يخرج بلكنة طفلة لم تبلغ العاشرة من عمرها وكأن كلماتها جمل ودرر تتحادر من فمها الزاكي لتعظ من حولها وهي في ساعة مرضها ورهقها ..

أحقا يوجد مثل هذه النماذج أدبا ودينا وزكاء وذكاء ، بينما مثيلاتها بل من هن أكبر منها في لجج من الغفلة والتفاهة !! لكن كم في الزوايا من بقايا ..

 

الرضا بالقضاء

فريق التمريض يستدعي الأطباء لإسعاف طفل عمره سنتان في إحدى غرف التنويم ، يعاني من ضعف في الأعصاب والعضلات مع التهاب في الصدر ، فإذا هو يتسارع نفسه ويزفر بين يدي أمه زفرات الموت ، يأخذه الأطباء بسرعة إلى غرفة العناية المركزة ، لتبقى الأم في غرفتها ، عند ذلك انتبهت لأعود لتطمين الأم بعد ازدحام الأطباء في الغرفة وتناديهم ووضع الأجهزة ، فأردت تطمينها فوجدت امرأة ثابتة راسية كالجبل ترد علي قائلة : الحمد لله هذا سادس ابن افقده بهذه الطريقة ..

يا لله.. سادس ابن وبنفس الطريقة ومع ذلك كل هذا الثبات والهدوء والاطمئنان ، عند ذلك لاح في خاطري أمهات يجزعن أو يقاربن الجزع بسبب مرض بسيط يصيب أطفالهن ، أو ألم بسيط يصيب أبناءهن ، إنها عبودية الصبر والاطمئنان لقدر الله ، وقد قال الله تعالى :( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ).

رجعت للطفل في العناية المركزة وبعد وقت قصير فارق الحياة لأرجع مرة أخرى لأمه كي أعزيها فيه فلم أجدها في غرفتها فسألت عنها فقالوا : خرجت ، فعند ذلك نزلت إلى مدخل المستشفى فإذا هي جالسة تنتظر وقالت لي : عرفت أن هذه آخر لحظات طفلي فكلمت زوجي كي يأتي ليأخذني …فرضي الله عنها وأرضاها وعوضها خيرا في حياتها وبعد مماتها ..عبودية الاطمئنان لقدر الله والرضا به عبودية تصدر من عمق الجنان ( بالفتح) ومنازل أهلها في أعلى الجنان ( بالكسر ).

و ما أرفع مقام الصبر وما أعلى درجته عند الله يوم القيامة

الصبر مر مثل اسمه 

لكن عواقبه أحلى من العسل

قال عمر رضي الله عنه : ما وجدنا أحلى عيشنا إلا بالصبر ..

 

 

 السفر الى الآخرة يقطع بالقلوب

أحد المشائخ كبير سن وقدر ، دخل المستشفى بسبب مضاعفات مرض السكر وقد أصيب بسببه ب( غرغرينة) في قدمه فقرر الأطباء بتر جزء منها ..

كنت مناوبا ذات ليلة فجاءني استدعاء لمريض في نفس جناح الشيخ ، وأمام الجناح مصلى فإذا رجل واقف يصلي - كان الوقت قبل الفجر بساعتين - تصورت أن يكون الواقف كل أحد غير الشيخ لصعوبة الحالة التي كان يمر بها ، لكن الدهشة غمرتني لما اكتشفت أن المصلي الذي نصب قدميه مع ما فيهما من المرض يناجي ربه هو الشيخ ، رغم كبر سنه وصعوبة مرضه وألمه إلا أنه يفعل ما يعجز عن فعله من هم أصغر سنا وأقوى بدنا وأسلم من الأمراض - ونحسب الشيخ والله حسيبه ممن تنسيهم لذة العبادة ألم المرض -، وصدق ابن القيم حينما قال : سفر  الآخرة يقطع بالقلوب وليس بالأبدان  ..

 

 

 حياة الروح

عبدالرحمن وما أدراك من عبدالرحمن ! تعرض لحادث دهس في العاشرة من عمره فأصابه شلل رباعي ، وصار معتمدا على جهاز التنفس ( المنفسة) وبقي في المستشفى ما يقارب ثمان وعشرين سنة لا يتحرك منه شىء إلا عيناه اللتان تمتلآن بالحياة مع لسانه الذي يخرج كلمات لا يتبينها إلا من اعتاد سماع كلامه بسبب أثر المنفسة ، استغرق هذا البلاء شبابه كله ، لا يتحرك منه شىء إلا عينان تنظران ولسان صار يحرك به بعد ذلك حاسوبه الخاص ( عن طريق عصا يحركها بلسانه فيكتب في شاشته) ، كنت أدخل عليه زائرا فأجد شابا مليئا بالحياة ، ابتسامة في الوجه ورضى في النفس ، جسده لا يتحرك لكن روحه تتحرك ، يسأل عن واقع الناس ويحلل الأمور ويوجه وينصح ، يقرأ في الحاسوب ويتفقه في دين الله ، ويرسل النصائح ويدعو إلى الخير ، يتواصل مع أهله ومع الناس -  بعدما بدأت وسائل التواصل الاجتماعي - يواسيهم ويسليهم ، أحتقر نفسي كلما دخلت عليه ، وهو الذي يعاني من التهابات متعددة زيادة على مرضه ، وهو الذي أصابه فشل كلوي في آخر سني عمره فصار يخضع لغسيل الكلى ثلاث مرات في الأسبوع ، أحتقر نفسي لأني أزوره وأنا محمل بالهموم مع أني أذهب وأجيء وهو رهين فراشه سنوات عدة ومع ذلك تطفح على صفحات وجهه علمات الرضى ، توفي رحمه الله بعدما شارف الأربعين بسبب التهاب في الدم ، رحمه الله تعالى وجعل ما أقبل عليه خير مما ترك ،،،

حياة عبدالرحمن مليئة بالدروس والعبر لكن من أهمها أن عمر الانسان لا يقاس بدبيبه على الأرض ولا بمشيه في الفلك ، فكثيرون من هم في عمر عبدالرحمن قد قطعوا المسافات الطويلة وداروا في نواحي الأرض وتنعموا وترفهوا لكن حياتهم الحقيقية هي قليلة بجانب حياتهم العمرية ، فالإنسان يقاس بهمه وايمانه وروحه وتفاعله بمن حوله وليس ببدنه الذي ينعمه ولا بسيره الذي يقطعه : رحم الله عبدالرحمن وأورده موارد الأبرار على صبره فيما ابتلي به :

ليس من مات فاستراح بميت 

إنما الميت ميت الأحياء

 

 

  وكان الله على كل شيءٍ مقتدرا

 طفل صغير ولدته أمه قبل اكتمال الحمل به بأسابيع فأدخل العناية المركزة للخدج ، كان وزنه أقل من كيلو ، ومثل هذه الحالات يكون الطفل معرضاً فيها لعدد من المضاعفات والأمراض ، وفوق ذلك أصابه التهاب فطريات انتشر في جسمه فتغير لونه وصار مائلا إلى السواد من شدة الإلتهاب ، اجتمعت في هذا الطفل عدد من الأمراض مما جعل الفريق الطبي المباشر له يبدأ ينقاش مع أهله ما يعرف بعدم الانعاش لأن الشفاء من مثل هذه الأمراض في مثل هذه الحالات نسبته ضئيلة جدا … 

دعني أيها القارىء الكريم أنقلك من هذا المشهد المحزن لهذا الطفل الخديج إلى مشهد آخر لنفس الطفل وما بين المشهدين سوى خمس سنين ، عندما أتى هذا الطفل يمشي على رجليه لنفس العناية المركزة التي كان يرقد فيها ويسلم على نفس الأطباء الذين كانوا في يوم من الأيام يناقشون مسألة عدم انعاشه لتضائل نسبة شفائه ، نعم إنه هو هو صاحب المشهد الثاني المفرح هو صاحب المشهد الأول المحزن ،، حتى يعرف الناس أن الأمور تدبر في السماء وليس في الأرض وحتى لا ييأس أحد مهما كان ظرفه ومرضه من رحمة الله ، فالله قادر على تغيير الأحوال ولو استحالت عند البشر :( وكان الله على كل شىء مقتدرا ).

لا تقنطن وثق بالله إن له

ألطاف دقت عن الأذهان والفطن

يأتيك من لطفه ما ليس تعرفه

حتى تظن الذي قد كان لم يكن

 

 

 لا يراه الناس لكن الله يراه

 مسلم كندي من أصول باكستانية قد علاه الشيب ، التقيت به في مدينة تورونتو الكندية ، مدينة كبيرة وبها مستشفيات كثيرة ، ويبلغ تعداد المسلمين بها ما يقارب نصف مليون ، بحيث اذا دخلت أيا من مستشفيات المدينة أسماء المسلمين والمسلمات في غرف التنويم لا تكاد تخطىء عينك ،، صاحبنا المسلم ذو الأصول الباكستانية قال لي : أنا وزوجتي لنا أكثر من عشرين سنة ونحن نزور المرضى المسلمين ،، الله أكبر أكثر من عشرين سنة وهذا عمله وهمه يزور المرضى المسلمين يواسيهم ويسأل عن حالهم ، بل استخرج مع زوجته بطاقة زيارة بحيث يدخل للمرضى المسلمين في أي وقت وفي أي مستشفى ، وزيادة على ذلك ألف كتابا تعريفيا يشرح فيه للطواقم الطبية في المستشفيات هناك : أحكام المريض المسلم و عباداته ..

 أكثر من عشرين سنة يسعى في "خرف الجنة" بزيارة المرضى !! ما الذي جعله يستمر ويداوم على هذا ؟!  لا يتقاضى راتبا على هذا العمل ، ولم يشهر اسمه ، ولم يخرج في القنوات فيراه الناس ويثنون عليه لكن الله يراه قال تعالى :( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ). سبحان الله كم من الأجساد الطاهرة في هذه الحياة المليئة تتحرك في طاعة الله لا يعرفها الناس . حقا : كم في الزوايا من بقايا ..

 

 

جمعية القلب على الله

طبيب استشاري من أصول غير عربية يعمل في إحدى المستشفيات الكبيرة في بلدنا ، عمله طبيب في التخدير ،، خبره عجب : مع تعلق تخصصه بالعمليات الجراحية إلا أنه لا تكاد تفوته الصلاة مع الجماعة ، بل إذا جاء وقت الصلاة تفرغ لها بينما عدد ليس بالقليل من الأطباء يتخلفون عن الصلاة لأهون سبب ، صاحبنا عرف في مسجد المستشفى بصلاته الطويلة ، يقضي وقت الراحة للغداء في التنفل بالصلاة ، يصوم يوما ويفطر يوما ، يستغرق معظم وقته وهو يستمع لدروس العلم وقد وضع السماعة في أذنه ، يديم الذهاب للحج والعمرة ، يشارك في المخيمات الطبية الإغاثية ، قلبه يمتلىء بالحرقة لهذا الدين ويشغله هم الإصلاح … فسبحان من جعل قلب هذا الطبيب وقالبه يتوجه إلى ربه بمجموعه ويكون شغله بربه هو همه ليله ونهاره ..

 

 

تعظيم قدر الصلاة في المستشفيات

 موظف في المستشفى ليس عليه سمت التدين ، لكنه راسخ ثابت مواظب على صلاة الظهر والعصر في المستشفى ، تتغير الأحوال ويمتد الزمان وتذهب الأيام تلو الأيام وهو أول من يأتي إلى المسجد ، سبحان من علق قلب هذا الشاب ببيته ، حتى أنه لما عاد الناس للصلاة في المساجد بعد الاغلاق زمن جائحة كورونا لم يفتح مسجد المستشفى القريب من عمل هذا الشاب وإنما كان هناك مسجد آخر بعيد ، وإذا هو كل وقت خلال تواجده في العمل يسير خطواته ويمشي أدراجه إلى مكانه المفضل ، قلت له مرة - وهو في طريقه للمسجد البعيد - : هذا بعيد عليك !! فقال : ما لنا غيره ،،،

سألته مرة وقد أخذني الفضول : كيف نشأ عندك هذا الحرص على الصلاة ؟ ، فقال - بعدما غمر وجهه ابتسامة هادئة - : الحمد لله ..

في ردحات المستشفيات تكثر الغفلة بين صفوف العاملين في المستشفى على اختلاف أعمالهم ، فالصلاة تؤخر ويفرط فيها ، لكن قدر الصلاة عظم في قلب صاحبنا مما جعله لا يتأخر عنها لحظة .

انه الشموخ الطاهر والتميز الحقيقي ..

فاللهم اجعلنا من المحافظين على الصلاة المداومين عليها ، وأيقظنا من الغفلة عنها ..

 

 ***

 

من الدكتور : محمد الركبان ،، استشاري طب الأسرة والمجتمع

 

مشاركتي عبارة عن التنويه ببعض الأشخاص الذين عرفتهم وتأثرت بهم ، كانوا وما زالوا قدواتٍ صالحة لمن عمل معهم واحتك بهم ، منهم من قضى نحبه نسأل الله تعالى لهم الغفران ونعيم الجنان ، ومنهم الأحياء نسأل الله تعالى لهم دوام الصحة والعافية على طاعته .

 

الأستاذ الدكتور إبراهيم المفلح رحمه الله ،، استشاري الجهاز الهضمي

كان مثالاً للمؤمن الملتزم ، اشتهر بتقواه وورعه وحضوره المبكر لصلاة الجماعة ، أراه إذا كنا مناوبين يحضر للمستشفى فيصلي بالناس صلاة العشاء ثم يمر على مرضاه ليطمئن عليهم ، وهو من الاستشاريين القلائل الذين داوموا على ذلك ، لم يكن مجرد استشاري عادي بل مرجع علمي في تخصصه .

 

الدكتور عبدالعزيز الراشد رحمه ،، استشاري طب الأطفال

رمز من رموز العمل الخيري والإغاثي ، كان له قدم السبق في العديد من البرامج والجمعيات والرحلات الخيرية ، ومنها تأسيس جمعية "عناية" للمرضى ، وساهم بشكل كبير في نشر مفاهيم الفقه الطبي والتصحيح الشرعي للممارسات الطبية ، وكان له شفاعات مباركة انتفع بها الكثير من الأشخاص والمؤسسات .

 

الأستاذ الدكتور عبدالرحمن المزروع حفظه الله ،، استشاري الأمراض المعدية لدى الأطفال

يخجلني بتواضعه ودماثة خلقه ، متميز علمياً وإدارياً ، يلفت نظري في صلاة الظهر بالمستشفى حضوره المبكر ثم حسن صلاته وطول قيامه في النافلة ، ويظهر لي أنه حافظ متقن للقرآن يراجع حفظه في الصلاة ، حسن السمت كثير الصمت ، تراه في المجلس صامتاً حتى تظن أنه أقل الحضور علماً وقدراً ، فإذا سُئل تحدث فأجاد وأفاد ، ثبته الله وزاده من فضله .

 

الأستاذ الدكتور إبراهيم بن علي العريني حفظه الله ،، استشاري طب الأشعة

شخصية متميزة جداً ، ذو سمت وصدق وإخلاص نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله ، هيئته هيئة شاب بسيط ملتزم ، ثم تعجب إذا خالطته وعملت معه من ذكائه الوقاد وحزمه في العمل والتطوير ، تمت على يديه قفزات نوعية في بيئة العمل التي تولى إدارتها ، لا يجامل في الحق ولا تأخذه لومة لائم ، هو بحق ممن يأخذ الأمور بقوة ، وفقه الله وزاده من فضله .

 

الدكتور عبدالرحمن السويلم حفظه الله ،، استشاري طب الأطفال

أعجب من حماسته للعمل الخيري والإغاثي خلال سنوات طويلة جداً حتى تفرغ تماماً لذلك بعد أن شابَ شعره في الأعمال الصحية والمناصب الإدارية ، تجاوز السبعين وما زار شعلة في النشاط ، يرأس عدداً من الجمعيات الخيرية ويشارك بالعضوية في عدد آخر ، تراه يسافر في الداخل والخارج ويعمل هنا وهناك محتسباً لا يكل ولا يمل ، نسأل الله تعالى له البركة والزيادة من فضله .

 

الأستاذ الدكتور جمال الجارالله حفظه الله ،، استشاري طب الأسرة والمجتمع

أستاذنا وأخونا الكبير ، شارك بشكل كبير وفاعل في صياغة وتنقيح مبادئ أخلاقيات مهنة الطب ، حتى عرفت به وعرف بها ، ومع انشغاله المهني إلا أنه تميز بالتركيز وعدم التشتت فأعطى موضوع الأخلاقيات الطبية جل اهتمامه عبر سنوات طويلة حتى ألف عدداً من الكتب وصار مرجعا ً في هذا المضمار ، وما زال يعطي ويشارك بنفس القدر من التركيز مع مرور الزمن وعلو المكانة العلمية والإدارية ، متعه الله بالصحة والعافية وزاده من فضله .

 

***

 

سأضيف بإذن الله مشاركات الزملاء الآخرين حالما تصلني

 

وخانة التعليقات متاحة لجميع الممارسين الصحيين 


وفق الله الجميع 


تعليقات

  1. جميلة جداً رفع الله قدركم وأعلى شأنكم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طريق الطمأنينة .. كيف يتجاوز المؤمن ألم الهموم والمصائب

تأملات في الحكمة من ابتلاء الأطفال بالأمراض

وأعفيت لحيتي