هل قرأ المشاهير سورة الحجرات ؟

 


بسم الله الرحمن الرحيم

  ﴿تَنزِیلࣱ مِّنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ﴾ 

[فصلت ٢]

  والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النفع من الله على هذا العالم إنزال القرآن الناشىء عن رحمته ولطفه بخلقه. 

(فتح البيان للقنوجي)

 

هل قرأ المشاهير سورة الحجرات؟

رب أعن ويسر

 

الشهرة "رزق"

الشهرة ليست بحد ذاتها نعمة ولا نقمة ، إنما هي "رزق" يختبر الله بها بعض الخلق ، فمن أطاع الله واتقاه في شهرته صارت نعمة كبيرة ، ومن عصى الله صارت شهرته نقمةً عليه وعلى متابعيه . الساعون للشهرة كثيرون لكن الله سبحانه يمنحها _ كباقي الأرزاق _ لمن يشاء ، ويمنعها عمن يشاء ، وفق حكمته وخبرته بما يصلح لأحوال عباده ﴿إِنَّ رَبَّكَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِیرَۢا بَصِیرࣰا﴾ [الإسراء ٣٠] . يقدر أي يضيق ويقلل .

﴿ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ وَفَرِحُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا مَتَـٰعࣱ﴾ [الرعد ٢٦]  الله يوسع في الرزق لمن يشاء، ويضيق على من يشاء من عباده، وليس توسيع الرزق علامة على السعادة ولا على محبة الله، ولا ضيقه علامة على الشقاء، وفرح الكفار بالحياة الدنيا فركنوا واطمأنوا إليها، وليست الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة إلا متاعًا قليلًا ذاهبًا. (المختصر في التفسير) ، ، والفرح المذكور في الآية هو فرح البطر والأشر ونسيان الآخرة ، لا فرح السرور بنعم الله، وشكره- سبحانه- عليها ، والمتاع: ما يتمتع به الإنسان في دنياه من مال وغيره لمدة محددة ثم ينقضي. وكذلك الشهرة ؛ يفرح بها الغافلون عن الآخرة فرح بطر ، فينسبون الفضل لأنفسهم ولا يشكرون الله على الشهرة باستعمالها في مرضاته ، وما هذه الشهرة إلا متاع قليل ، بضع سنوات ثم تخبو أضواؤهم وتنساهم الجماهير لتتابع مشاهير جدد .

 

من مكاسب الشهرة :

·       زيادة الدخل المادي .

·       الحصول على الأشياء والخدمات بسهولة وبالمجان .

·       المكانة الاجتماعية والإعلامية .

·       السفر والسياحة المجانية .

·       المشهور إذا أحسن صار قدوةً حسنةً لغيره ، وفاز بأجر المقلدين له في سلوكه ومظهره واهتماماته الحميدة .

 

من سلبيات وأضرار الشهرة :

·       فقدان الخصوصية .

·       الضغط والإجهاد النفسي الناتج عن ملاحقة الجماهير وإرضاء رغباتهم .

·       اضطراب الحياة الشخصية ، بسبب ما تمليه الشهرة من ظهور المشهور دوماً في صورة بخلاف صورته الواقعية التلقائية .

·       النظرة المثالية للمشهور ، وعدم قبول وقوع الأخطاء والتقصير من جانبه .

·       تصيد الحساد لأخطائه ، وتتبع الطفيليين لحياته الخاصة ، ونشرها مع التركيز على الفضائح !

·       محدودية عمر الشهرة (بضع سنوات) ثم يعاني المشهور من فقد الأضواء تدريجياً .

·       نقص الدخل المادي بشكل حاد بعد تراجع الشهرة ، وانتكاس الحال إذا لم يكن موفقاً في تدبير دخله حال الشهرة .

·       التسبب في زيادة الشراء غير الضروري والسلوك الاستهلاكي لدى المتابعين والمعجبين .

·       المشهور قدوة سيئة إذا ارتكب المحاذير ، ويبوء بأوزار من يقلده في سلوكه ومظهره واهتماماته المنكرة .

 

عبودية المشاهير celebrity worship

مصطلح يُستخدم في علم النفس السلوكي ، ويعنون به شدة متابعة المعجبين للمشهور الذي يحبونه ، وهو طيف واسع من السلوك ، يبدأ من اتخاذ المشهور قدوةً ومثلاً يُحتذى ، ويصل بالبعض إلى الاندماج الكامل والذوبان في شخصيته .

التسمية الأصح في أوساط المسلمين هي "التعلق" بالمشاهير ، لأن العبودية لا تكون إلا لله سبحانه ، وهذا لا يعني أن عبادة المشاهير لا تُرى في المجتمعات الإسلامية ، بل هي موجودة في صورة متابعة المشهور في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، مع الإعراض عن حكم الله ورسوله ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ طَوِيلٌ رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَغَيْرُهُمَا - وَكَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ ، فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ : فَقُلْت لَهُ : إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ ؛ قَالَ : أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَه ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ ؟ قَالَ : فَقُلْت : بَلَى . قَالَ : فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو البختري : أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ ، وَلَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ ، فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ ، وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ ؛ فَأَطَاعُوهُمْ ، فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ . (مجموع الفتاوى)

 

فهل أدرك المشاهير حجم المسئولية أمام الله ؟

وهل عرف الساعون نحو الشهرة ضريبة الشهرة وتكاليفها ؟  

 

وسائل التواصل الاجتماعي منحت الفرصة لتحقيق الشهرة بشكل أسرع وأسهل ،  وبالتالي زادت عدد المشاهير وضاعفت أثرهم على المعجبين والمتابعين .لذلك يحتاج المشاهير والباحثون عن الشهرة للوقوف مع القرآن الكريم لضبط بوصلة رحلة الشهرة بحيث تنتهي بهم وبمتابعيهم إلى شاطئ النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة .

 

 المشاهير أئمة يقفون أمام متابعيهم

فإن ساروا بهم وفق القرآن والسنة ربحوا جميعاً ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾ [النساء ١٣] ، ونالوا رتبة الإمامة في الهدى ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یُوقِنُونَ﴾ [السجدة ٢٤] ، وكي تستمر إمامة المشاهير في الخير لابد لهم من الصبر على الحق وتحمل مرارة النهي عن الباطل ، ولا بد لهم من اليقين بآيات الله ووعده ووعيده ، فالذي على يقين من الجنة وكأنه يرى خضرتها ويشم رائحتها وهو يكتب تغريدة أو يصور مقطعاً سيتساءل : هل ما أنشر يقربني منها أم يبعدني عنها ؟ والذي على يقين من وجود النار وكأنه يسمع حسيسها وصراخ أهلها سيتساءل أيضاً : هل ما أنشر يقربني منها أم يبعدني عنها ؟

وإن ساروا بهم وفق الهوى والطغيان وأعرضوا عن كتاب الله ضلوا وهلكوا جميعاً ، وانقلبت محبتهم وإعجابهم ببعض إلى عداوة وخصومة يوم القيامة ﴿ٱلۡأَخِلَّاۤءُ یَوۡمَىِٕذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِینَ﴾ [الزخرف ٦٧] : الأصدقاء على معاصي الله في الدنيا يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، لكن الذين تصادقوا على تقوى الله، فإن صداقتهم دائمة في الدنيا والآخرة. (التفسير الميسر) ، ثم طالب الأتباع بعذاب أكبر للمتبوعين لأنهم الذين أضلوهم ، وتبرأ المتبوعون من الأتباع في مشهد مخيف - نسأل الله العافية لنا ولكم - ﴿هَـٰذَا فَوۡجࣱ مُّقۡتَحِمࣱ مَّعَكُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ إِنَّهُمۡ صَالُوا۟ ٱلنَّارِ﴾ [سورة ص ٥٩] وعند توارد الطاغين على النار يَشْتُم بعضهم بعضًا، ويقول بعضهم لبعض: هذه جماعة عظيمة من أهل النار داخلة معكم، فيجيبون: لا مرحبًا بهم، ولا اتسعت منازلهم في النار، إنهم مقاسون حرَّ النار كما قاسيناها. ﴿قَالُوا۟ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ﴾ [ص ٦٠] قال فوج الأتباع للطاغين: بل أنتم لا مرحبًا بكم؛ لأنكم قدَّمتم لنا سكنى النار لإضلالكم لنا في الدنيا، فبئس دار الاستقرار جهنم.  ﴿قَالُوا۟ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـٰذَا فَزِدۡهُ عَذَابࣰا ضِعۡفࣰا فِی ٱلنَّارِ﴾ [ص ٦١] قال فوج الأتباع: ربنا مَن أضلَّنا في الدنيا عن الهدى فضاعِف عذابه في النار. (التفسير الميسر)

وإن بقوا في خانة المباحات فلا لهم ولا عليهم ، وهي خانة واسعة ، يجد فيها محبو الأنس والمهتمون بشئون الحياة اليومية بغيتهم فيما يتعلق بالمنزل والرحلات والنكت والطرائف المباحة، والقصص والمعلومات المسلية ، والألعاب والألغاز  .. ما دامت خالية من المنكرات . وإذا أشكل الأمر هل هو مباح أو محرم فالجواب عند العلماء الربانيين ، لا عند الجماهير  ﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ یُضِلُّوكَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ﴾ [الأنعام ١١٦]

●●●

فيما يلي وقفات مع سورة الحجرات ، يحتاجها كل مسلم ، وخصوصاً المشاهير ومستخدمو وسائل التواصل ، نفعني الله وإياكم بها .

 

سورة الحجرات

مدنية

 

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُقَدِّمُوا۟ بَیۡنَ یَدَیِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ (١)﴾  

كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، فارعها سمعك، فإنه خير تُؤمر به، أو شر تُنهى عنه.

أي انتبه لهذا النداء واهتم به ، فالمنادي سبحانه أعلم بالخير والشر لأنه الذي خلقهما وخلق البشر، لكن بشريتنا ومحدودية عقولنا ، لا تمكننا من رؤية الحكمة في كل الأوامر والنواهي ، وهذا ابتلاء واختبار لإيماننا بالغيب، فمن رضي بأحكام الله ولو غابت عنه الحكمة منها ، وآمن بوعده ووعيده ؛ صار مؤمناً بالغيب.

·       تكرر هذا النداء الكريم خمس مرات في هذه السورة ، وهو نداء تشريف وتكريم للمؤمنين بصفة الإيمان ، كما أنه حث على الالتزام بما تضمنه من العهد مع الله سبحانه . فحري بمشاهير المؤمنين وقدواتهم أن يبدأوا توجيهاتهم ونصائحهم بأوصافٍ كريمة ومشجعة لمتابعيهم .

 ﴿يٰأيُّها ٱلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ يا أيها الذين صدّقوا بالله رباً وإلهاً وبالإسلام شرعة ودينا وبمحمد نبيّا ورسولا، الذين آمنوا إيماناً صادقاً وقر في قلوبهم وظهر على ألسنتهم وفي أعمالهم الصالحة. ﴿لا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ لا تقدموا في دين الله قولا ولا عملا ولا رأيا ولا فكرا، إلا تبعاً لما قال الله، وشرع على لسان رسوله ، والتقدم بين يدي الله ورسوله تمثيل بالسير أمام الرسول وشريعته في الطريق ، والواجب أن نكون خلفه متبعين له . قال الإمام ابن القيم رحمه الله : وَهَذا باقٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ولَمْ يُنْسَخْ ، فالتَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْ سُنَّتِهِ بَعْدَ وفاتِهِ، كالتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ في حَيّاتِهِ، ولا فَرْقَ بَيْنَهُما عِنْدَ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ. ﴿وٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ أي اجعلوا بينكم وبين سخط الله وعذابه وقاية، والوقاية هي الاستجابة لأوامره وترك نواهيه، وهذا تحذير من الخوض في أمور الدين بدون علمٍ وتقوى ﴿إنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتكم وأعمالكم، إنه جلّ في عُلاه يسمع ما نقول قبل أن يسمعه الناس، ويعلم سرائرنا التي لا يراها الآخرون، وإليه مرجعنا يوم القيامة .

 فلنحذر جميعاً من :

·       تقديم هوى النفس ورضا الناس على مرضاة الله.

·       قول: هذا حلال وهذا حرام بدون التأكد من فتاوى العلماء الربانيين.

·       نشر الأمور المبتدعة في الدين مثل أذكار وأدعية وصلوات بأساليب وأرقام لم يرشدنا إليها إمامنا وقدوتنا محمد ﷺ، نظن أن نشرها خير، وهي بدعة لا خير فيها، قال ﷺ "كل بدعة ضلالة".

●●●●

﴿يٰأيُّها ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لا تَرْفَعُوۤاْ أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ ولا تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أن تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ(٢)﴾ الآية تطالب المسلم بالتأدب مع رسول الله ﷺ فأولا: نهى جل وعلا الصحابة رضي الله عنهم عن رفع أصواتهم فوق صوت رسول الله ﷺ إذا هم تحدثوا معه، وأوجب عليهم إجلال النبي وتعظيمه واحترامه بحيث يكون صوت أحدهم أخفض من صوت الرسول ﷺ، وثانيا: نهاهم إذا خاطبوا رسول الله ﷺ عن أن ينادوه باسمه مجرداً  كما ينادي بعضهم بعضًا، بل ينادوه بالنبوة والرسالة (يا رسول الله ، يا نبي الله) بخطاب لين توقيراً وتعظيماً لجنابه، فالله قد أكرمه بالنبوة والرسالة وجعله سيد ولد آدم. وأعلمهم أنه يُخشى عليهم إذا هم لم يوقروا رسول الله ولم يجلوه أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون.

جاء وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاقترح أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله رجلاً من الوفد يكون أميراً عليهم، واقترح عمر رضي الله عنه رجلاً آخر، فاختلفا وارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية، فكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بعدها يخفضان أصواتهما جداً عند الرسول عليه الصلاة والسلام حتى لا يكاد يُسمع، فبانت فضيلتهما بسرعة الاستجابة والانقياد واقتدى بهم بقية الصحابة.

  إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قبضه الله إليه، فإن سنته وأحاديثه الشريفة باقية، يجب توقيرها وتقديمها على الآراء والأفكار وعدم الاستهانة بها عند مدارستها ونشرها، ولنتأكد من صحة الأحاديث قبل نسبتها إليه ﷺ.

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَغُضُّونَ أَصۡوَ ٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرٌ عَظِیمٌ(٣)﴾ يثني الله تعالى على أقوام يغضون أصواتهم، أي يخفضونها في حضرة رسول الله وبين يديه، كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، هؤلاء امتحن الله قلوبهم للتقوى فصارت خالصة، كَما يُمْتَحَنُ الذَّهَبُ بِالنّارِ، فَيَخْرُجُ جَيِّدُهُ مِن رَدِيئِهِ ويصفو، فصارت قلوبهم منشرحة لتسكنها التقوى فسكنتها وعمرتها، قال ﷺ: "التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاثا". وإذا عُمرت القلوب بالتقوى حصلت الجوائز: يبشرهم تعالى بالمغفرة لذنوبهم، والأجر العظيم يوم يلقونه وهو الجنة دار المتقين جعلنا الله منهم بفضله ورحمته.

لمَّا نزَلَتْ الآيةُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قولِه: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}، وكان ثابتُ بنُ قَيسِ بنِ الشَّمَّاسِ جهوري الصوتِ، فقال: أنا الذي كُنْتُ أرفَعُ صَوْتي على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حبِطَ عَمَلي، أنا من أهلِ النَّارِ، وجلَسَ في أهلِه حَزينًا، فتفقَّدَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فانطَلقَ بعضُ القومِ إليه، فقالوا له: تفقَّدَكَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ما لكَ؟ فقال: أنا الذي أرفَعُ صَوتي فوقَ صَوتِ النَّبيِّ، وأَجهَرُ بالقولِ حبِطَ عَمَلي، وأنا من أهلِ النَّارِ، فأتَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأَخبَروه بما قال، فقال: لا، بل هو من أهلِ الجَنَّةِ، قال أَنَسٌ: وكُنَّا نَراه يَمْشي بين أظْهُرِنا، ونحن نَعلَمُ أنَّه من أهلِ الجَنَّةِ، فلمَّا كان يومُ اليَمامةِ كان فينا بعضُ الانكِشافِ [أي انهزام وفرار في معركة اليمامة]، فجاءَ ثابتُ بنُ قَيسِ بنِ شَمَّاسٍ، وقد تحنَّطَ ولبِسَ كَفَنَه، فقال: بِئسَما تُعوِّدونَ أقرانَكم، فقاتَلَهم حتى قُتِلَ. رواه الإمام أحمد وأصله في الصحيحين.

·       من كان ينشر الخير فتوقفت مشاركاته وافتقدناه فلنسأل عنه، لعله محزون فنواسيه، أو مكروب فنساعده، أو مالت به فتنة الدنيا فنثبته ونذكِّره.

●●●

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُنَادُونَكَ مِن وَرَاۤءِ ٱلۡحُجُرَ ٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ (٤) وَلَوۡ أَنَّهُمۡ صَبَرُوا۟ حَتَّىٰ تَخۡرُجَ إِلَیۡهِمۡ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ (٥)﴾  

ما زال السياق الكريم في تأديب المؤمنين إزاء نبيهم ﷺ، فقد عاتب تعالى أقواما معهم جفاء وغلظة، قيل أنهم وفد من أعراب بني تميم، جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقفوا على أبواب حجرات نساء النبي ينادون بأعلى أصواتهم: يا محمد يا محمد اخرج إلينا فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية الكريمة تأديبا لهم ﴿إنَّ ٱلَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن ورَآءِ ٱلْحُجُراتِ﴾ حجرات نساء الرسول ﷺ، وكانت أبواب الحجرات مطلة على المسجد ﴿أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ أي فيما فعلوه بمقام الرسول الشريف ومكانته الرفيعة ، فقد كانَ ﷺ لَا يَحْتَجِبُ عَنِ النَّاسِ إِلَّا فِي أوقات يشتغل فيها بِمُهِمَّاتِ نَفْسِهِ، فَكَانَ إِزْعَاجُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ وقلة العقل. ﴿ولَوْ أنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتّىٰ تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَّهُمۡۚ﴾ أَيْ لَوِ انتظروا خروجك لكان أصلح لهم فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ من النداء بعالي الأصوات ﴿وٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ غفور لمن تاب منهم رحيم بهم، فلم يُعجل لهم العقوبة، بل فتح لهم باب التوبة والاستغفار.

·       القدوات والمؤثرون لهم حياتهم الخاصة وواجباتهم الأسرية ، فينبغي احترامها ومراعاتها. قال ابن عباس رضي الله عنه : كنت آتي بيت الرجل من أصحاب النبي وأريد أن أسمع منه الحديث فأجلس على بابه في القيلولة حتى أنام ، أتوسد فتسفي الريح على وجهي التراب ، لكن أتحمل حتى يخرج إلي ويعاتبني لماذا لم أطرق عليه ؟! . وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام : ما دققت على مُحدِّثٍ بابه قط وإنما أنتظر حتى يخرج ثم أفاتحه برغبتي .

●●●

 

﴿يٰأيُّها ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إن جَآءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلىٰ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ(٦)﴾ سبب نزولها أن النبي ﷺ بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأتي بزكاة أموالهم، وكان بينهم وبين أسرة الوليد عداء في الجاهلية، فخاف الوليد أن يدخل عليهم، وهذا من وسواس الشيطان، فرجع وادعى أنهم منعوه الزكاة وهموا بقتله فهرب منهم، فغضب رسول الله ﷺ وهمَّ بغزوهم، فبعث خالد بن الوليد فوصل إليهم فإذا بهم يؤذنون ويصلون فعلم أنهم لم يرتدوا. وجاء وفدٌ منهم ومعهم الزكوات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بأنهم على العهد وأن الوليد رجع من الطريق ولم يصل إليهم.

هذه الآية وإن نزلت في سبب معين فإنها عامة وقاعدة أساسية هامة، فعلى الفرد والجماعة أن لا يقبلوا من الأخبار التي تنقل إليهم ولا يعملوا بمقتضاها إلا بعد التثبت ؛ كراهية أن يصيبوا فرداً أو جماعة بسوء بسبب فرية قد يريد بها صاحبها جلب مصلحة لنفسه أو دفع مضرة عنها. فالأخذ بمبدأ التثبت عند سماع خبر من شخص لم يُعرف بالتقوى والاستقامة واجب صونا لكرامة الأفراد وحماية لأرواحهم وأموالهم. والحمد لله على شرع عادل رحيم كهذا. ﴿إن جَآءَكُمْ فاسِقٌ﴾ المراد بالفاسق من يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، والنبأ الخبر ذو الشأن، والتبيّن هو التثبت  ﴿أن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهالَةٍ﴾ أن تصيبوهم بضرر في أبدانهم وأموالهم بعدم علم منكم وهي الجهالة ﴿فَتُصْبِحُواْ عَلىٰ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ أي من جرّاء ما اتخذتم من إجراء خاطئ.

قال الإمام القرطبي: وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها .

·       نسبة كبيرة من الأخبار والقصص والصور والمقاطع المتداولة مكذوبة أو محرفة، والذي يعيد النشر قبل التثبت سيقع حتماً في نشر الكذب. قال : كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ. رواه مسلم.

·       ما جزاء من يحقق المكاسب لنفسه بالوقوع في عرض أخيه المسلم وتشويه صورته بغير حق عبر وسائل التواصل ؟ قال : من أكل برجلٍ مسلمٍ أكلةً ، فإنَّ اللهَ يُطعمُه مثلَها من جهنمَ ، و من اكتسى برجلٍ مسلمٍ ثوبًا ، فإنَّ اللهَ يكسوهُ مثلَه في جهنمَ . رواه أبو داود وصححه الألباني ، أي مَن انتفَع أو كسبَ أكلةً نظيرَ أنْ يقعَ في عِرض مُسلمٍ، أو مُقابلِ أن يُؤذيَه بالقولِ أو الفعلِ، فإنَّ اللهَ يُطعِمه مِثلَها مِن جَهنَّم، فالجزاءُ مِن جِنسِ العَملِ، ومَن كسبَ ثَوبًا أو أخَذَه نَظيرَ أنْ يقعَ في عِرضِ مسلمٍ، أو يُؤذِيَه بالقولِ أو الفعلِ، فإنَّه يُجازَى بمثلِه يومَ القيامةِ مِن النارِ.

 

 ﴿وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ فِیكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ یُطِیعُكُمۡ فِی كَثِیرࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلرَّ ٰشِدُونَ (٧) فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعۡمَةࣰۚ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ (٨)﴾ لعنتم: أي لوقعتم في العنت وهو المشقة الشديدة والإثم.

ليكن في علمكم أيها المؤمنون أن رسولَ الله بين أظهركم وينزل عليه الوحي فكونوا صادقين، ومن لم يصدق فضحه الوحي كما فضح الوليد بن عقبة، وتأدبوا معه ؛ فإنه أعلم منكم بما يصلح لكم، يريد بكم الخير، لو يطيعكم في كثير من الأخبار التي يسمعها منكم، وفي الأحكام التي تحبون تطبيقها عليكم أو على غيركم لأصابكم العنت والمشقة، ولنزل بكم ما قد يؤدى إلى هلاككم وإتلاف أموركم. ولكن الله من فضله عليكم أن حبب إليكم الإيمان وحسَّنه في قلوبكم، فآمنتم وأطعتم الرسول، وكرَّه إليكم الكفرَ بالله والفسوق وهو الخروج عن طاعة الله بما في ذلك الكذب والافتراء على الغير، وكرّه إليكم العصيان، أولئك المتصفون بهذه الصفات (الإيمان ومحبة الطاعة والصدق، وكره الكفر والفسوق والمعاصي) هم الراشدون السالكون طريق الحق والصواب.

﴿فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ ونِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾ محبة الإيمان وتزيينه في القلوب، وكره الكفر والفسوق؛ كل ذلك فضلٌ من الله ونعمة على العبد المؤمن، والله عليم بالظواهر والبواطن، وعليمٌ بالنيات والأقوال والأفعال، وعليمٌ بمن يستحق هذا الفضل، حكيم في تدبيره، فهيأ أصحاب رسول الله للخير وأضفاه عليهم فهم أفضل هذه الأمة على الاطلاق رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وعنا معهم آمين.

·       من توفيق الله لعبده المؤمن أن يصطفيه لاستعمال وسائل التواصل في دعوة الناس للإيمان والعمل الصالح والبر والإحسان وصلة الأرحام، وتحذيرهم من الكفر والمعاصي والفساد.

·       لنحمد الله ونشكره على كل خير ومعروف نعمله ، وعلى كل شر ومنكر نتركه، فهو الذي هدانا لذلك وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وهذا الشكر سبب في تفضل الله علينا بمزيد الهداية والتوفيق ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَىِٕن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِیدَنَّكُمۡۖ وَلَىِٕن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدࣱ﴾

·       لنحذر من نسبة الخير والصلاح لأنفسنا والتباهي بذلك، فذلك بداية الخذلان.

●●●

﴿وَإِن طَاۤىِٕفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱقۡتَتَلُوا۟ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَـٰتِلُوا۟ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّىٰ تَفِیۤءَ إِلَىٰۤ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَاۤءَتۡ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ (٩)  

 يرشد الله تعالى المسلمين إلى كيفية علاج مشكلة النزاع والاقتتال الذي قد يحدث في المجتمع الإسلامي ﴿وإن طَآئِفَتانِ﴾ أي جماعتان ﴿مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ﴾ ولو كان ذلك بين اثنين فقط، قيل أنها نزلت حين اقتتل حيّان من الأنصار بالعصي والنعال [يُطلق الحيّ على القبيلة أو مجموعة بيوت من القبيلة، والقتال يُطلق على النزاع بالسلاح أو بالأيدي والعصي] ﴿فَأَصْلِحُواْ﴾ أيها المسلمون ﴿بَيْنَهُما﴾ بالقضاء على أسباب الخلاف وترضية الطرفين بما هو حق وخير، ودعوتهما لحكم الله تعالى وقضاء رسوله ﴿فَإن بَغَتْ إحْداهُما عَلىٰ ٱلأُخْرىٰ﴾  أي اعتدت إحدى الطائفتين على الأخرى بعد الصلح ﴿فَقاتِلُواْ﴾ مجتمعين ﴿ٱلَّتِي تَبْغِي﴾ أي تعتدي ﴿حَتّىٰ تَفِيۤءَ إلىٰ أمْرِ ٱللَّهِ﴾ أي ترجع إلى الحق وترضى به ﴿فَإن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُما بِٱلْعَدْلِ وأَقْسِطُوۤاْ﴾ في حكمكم دائما وأبدا ﴿إنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ﴾ فالله سبحانه يحب أهل العدل، وفي الآية إثبات صفة المحبة لله تعالى على وجه الكمال اللائق به سبحانه، محبة مُنَزّهة عن جوانب النقص والضعف التي تعتري محبة المخلوقين لبعضهم البعض.

﴿إنَّما ٱلْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أخَوَيْكُمْ وٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)﴾ يقرر تعالى الأخوة الإسلامية، المؤمنون إخوة في الدين والعقيدة، فهم يجمعهم أصل واحد وهو الإيمان، كما يجمع الإخوة أصل واحد وهو النسب، وكما ان أخوة النسب داعية إلى التواصل والتراحم والتناصر في جلب الخير، ودفع الشر، فكذلك الأخوة في الدين تدعوكم إلى التعاطف والتصالح، وإلى تقوى الله وخشيته، ومتى تصالحتم واتقيتم الله- تعالى- كنتم أهلا لرحمته ومثوبته. وفي الآية دليل على بقاء الإيمان مع حصول البغي والقتال، فلا يُعتبر كفراً مخرجاً من الإسلام، ولما سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الخوارج البغاة الذين خرجوا عليه وقاتلوه: هل هم كفار أو منافقون؟ قال: إنما هم إخواننا بغوا علينا. ﴿وٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ في ذلك فلا تتوانوا أو تتساهلوا في الإصلاح فتُسفك الدماء المؤمنة ويتصدع بنيان الإيمان والإسلام في دياره ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ رجاء أن تُرحموا، وإذا حصلت الرحمة حصل الخير في الدنيا والآخرة.

·       الإصلاح بين المؤمنين سبب لرحمة الله بالمُصلح، فيغدق عليه الخيرات في الدنيا والآخرة، كيف لا وقد ساهم في إنقاذ إخوانه المؤمنين المتخاصمين من الحالقة ؟!

قال رسول الله ﷺ : أَلَا أَدُلُّكُم على أَفْضَلَ من درجةِ الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ ؟ قالوا : بلى يا رسولَ اللهِ . قال : إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ . لا أقولُ : إنها تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ. رواه أبو داود وصححه الألباني . فساد ذات البين هي النزاع والشحناء، وهي تحلق الدين أي تجتزه وتقطعه من أصله؛ لأنها تؤدي إلى الوقوع في الكبائر كسفك الدماء والغيبة والنميمة واللعن والقذف بالباطل وقطع الأرحام، كما أنها تفسد قلب المؤمن فلا يجد حلاة الإيمان ولذة العبادة.

·       وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين؛ كم أفسدت ذات بين وكم أصلحت، فهنيئاً لمن ساهم في جمع الشمل، وتأليف القلوب بين الأسر والعشائر والقبائل والأقاليم وعموم المؤمنين.

·       ليشجع بعضنا بعضاً على الصفح وإحسان الظن وقول التي أحسن وقبول الأعذار وتقبل اختلاف الطبائع والأذواق.

·       هذا لا يعني السكوت عن المنكرات، فالسكوت عنها لا يجوز، وإنما يكون إنكارها بالأسلوب الشرعي الذي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد قدر المستطاع.

●●●

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا یَسۡخَرۡ قَوۡمࣱ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُونُوا۟ خَیۡرࣰا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَاۤءࣱ مِّن نِّسَاۤءٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُوا۟ بِٱلۡأَلۡقَـٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِیمَـٰنِۚ وَمَن لَّمۡ یَتُبۡ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ (١١)﴾ 

من أسباب النزاع : سخرية المؤمن بأخيه واحتقاره، فحرم تعالى بهذه الآية على المسلم أن يحتقر أخاه المسلم ويزدريه منبهاً إلى أن من احتُقر وسُخر منه قد يكون غالبا خيرا عند الله من الذي احتقره، والعبرة بما عند الله لا بما عند الناس، ولا يحل لمؤمنة أن تزدري وتحتقر أختها المؤمنة عسى أن تكون عند الله خيرا منها منزلة، والعبرة بالمنزلة عند الله لا عند الناس. قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول، لو سخرت بكلب لخشيت أن أُحول كلباً.

وقد جاء النهى عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال وجماعة النساء، لأن الغالب أن السخرية كانت تقع في المجامع والمحافل والمنتديات ، وكان الكثيرون يشتركون فيها على سبيل التلهي والتلذذ.

وحرم سبحانه علينا إفشاء المعايب والتهكمات وتبادل الألقاب البغيضة لأنها تفضي إلى العداوة والشحناء ، فقال تعالى ﴿ولا تَلْمِزُوۤاْ أنفُسَكُمْ ولا تَنابَزُواْ بِٱلأَلْقابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمانِ﴾ ومعنى لا تلمزوا أنفسكم أي لا يعب بعضكم بعضا بأي عيب من العيوب فإنكم كشخص واحد فمن عاب أخاه المسلم كأنما عاب نفسه، ومن لمز أخاه بعيب رد عليه أخوه وعابه، فتسبب اللامز الأول بلمز نفسه، وهذا معنى ولا تلمزوا أنفسكم ﴿ولا تَنابَزُواْ بِٱلأَلْقابِ﴾ أي ولا يخاطب أحدكم غيره بالألفاظ التي يكرهها، بأن يقول له يا أحمق، أو يا أعرج، أو يا منافق ، أو يا فاسق.. أو ما يشبه ذلك من الألقاب السيئة التي يكرهها الشخص. فالتنابز: التعاير والتداعي بالألقاب المكروهة ، سواء أكان هذا اللقب للشخص أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما، فإن ذلك يفضي إلى العداوة والبغضاء . قال أبو جبيرة بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه : كانَ الرَّجلُ منَّا يَكونَ لَهُ الاسمانِ والثَّلاثةُ، فيُدعى ببعضِها فعَسى أن يَكْرَهَ، قالَ: فنزلت هذِهِ الآيةَ: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ . رواه الترمذي وصححه الألباني ، وقوله ﴿بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمانِ﴾ أي قبح أشدَّ القبح أن يُلَقَب المسلم بلقب الفسق بعد أن أصبح مؤمنا عدلا كاملا في أخلاقه وآدابه، كما أن المُلقِب للمسلم بألقاب السوء يُعد فاسقا وبئس الاسم له أن يكون فاسقاً بعد إيمانه بالله والرسول ، وقوله تعالى ﴿ومَن لَّمْ يَتُبْ﴾ أي من احتقار المسلمين وازدرائهم وتلقيبهم بألقاب يكرهونها ﴿فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلظّالِمُونَ﴾ المتعرضون لغضب الله وعقابه.

·       أسلوب السخرية والتهكم من أشد الأساليب رواجاً وانتشاراً ، والذين يتقنون هذا الأسلوب يكثر متابعوهم وتنتشر رسائلهم ومقاطعهم بصورة كبيرة ، وهذا ابتلاء وامتحان للتابع والمتبوع ، فإن اتقى الله فيما يقول واستعمل مهارته في نقد المنكرات والظلم والإسراف والعقوق وتضييع الحقوق ، واستعملها في الدفاع عن الخير والفضائل فقد نفع نفسه ومتابعيه ، وإن أساء فعليه وعليهم ، وإن بقي في خانة المباحات كحكاية المواقف والقصص الطريفة دون منكرات ومحاذير فلا له ولا عليه .

·       يكثر الاستهزاء والسخرية ببعض الشعوب والأقاليم ، وهذا منكر يجب الحذر منه ، والاستغفار مما حصل في السابق مع حذف الكتابات والمقاطع التي تشتمل على ذلك  .

·       لا يجوز للمسلم أن يحقر أخاه المسلم، أو يصفه بصفات النقص، ولا أن يلقبه بالألقاب التي لا يرضاها .. ومن حصل منه شيء من احتقار إخوانه أو الاستهزاء بهـم ، فإن عليه التوبة وطلب المسامحة من إخوانه. فتاوى اللجنة الدائمة ، رقم ( 16047 ) .

 

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱجۡتَنِبُوا۟ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمࣱۖ وَلَا تَجَسَّسُوا۟ وَلَا یَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَیُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن یَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِیهِ مَیۡتࣰا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابࣱ رَّحِیمࣱ (١٢)﴾

 ﴿يٰأيُّها ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ﴾ وهو كل تهمة ليس لها ما يوجبها ويبررها من القرائن والأحوال، وهذا النهي للتحريم، والعلة في ذلك: ﴿إنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إثْمٌ﴾ وذلك كظن السوء بأهل الخير والصلاح في الأمة ، فإن ظن السوء فيهم قد يترتب عليه قول باطل أو فعل سوء أو تعطيل معروف، فيكون إثما كبيراً . يقول عليه الصلاة والسلام: إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث. رواه البخاري ومسلم ، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن التابعي الجليل سعيد بن المسيب قال: كتب إلى بعض إخوانى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن : ضع أمر أخيك على أحسنه، ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه . انتهى . ﴿ولا تَجَسَّسُواْ﴾ أي خذوا ما ظهر من أحوال الناس ولا تبحثوا عن بواطنهم و أسرارهم وعوراتهم ومعايبهم، لما في ذلك من الضرر الكبير ، ومن تتبع عورات الناس فضحه الله- تعالى- . قال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوْراتهم؛ فإنه مَن تتبَّع عورة أخيه المسلم، تتبَّع الله عورته، ومَن تتبَّع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته . رواه أبو داود وصححه الألباني . ﴿ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أي لا يذكر أحدكم أخاه في غيبته بما يكره سواء في دينه أو خلقه أو نسبه، وقد سئل الرسول ﷺ عن الغيبة فقال: ذكرك أخاك بما يكره. فقيل: فإن كان فيه ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"، والبهتان أسوأ من الغيبة. ﴿أَیُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن یَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِیهِ مَیۡتࣰا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ﴾ غيبة المؤمن لأخيه مثل أكل لحمه ميتاً فهل يحب ذلك؟ والجواب: لا قطعاً، إذاً فكما عُرض عليكم لَحْمُ أخيكم ميتا فكرهتموه فاكرهوا إذاً أكل لحمه حيّاً وهو عِرضه، والعِرض أعز وأغلى من الجسم، ﴿وٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ في غيبة بعضكم بعضا فإن الغيبة من عوامل الدمار والفساد بين المسلمين ﴿إنَّ ٱللَّهَ تَوّابٌ رَّحِيمٌ﴾ يقبل توبة التائبين ، ورحيم بالمؤمنين ، ومن ذلك أنه حرم غيبة المؤمن لما يحصل بسببها من ضرر وأذى.

تنبيه : هناك مواضع ذكرها العلماء يجوز أن يتكلم فيها المسلم عن أخيه بناء على المصلحة، منها: طلب الإنصاف من الظالم، فيقول للقاضي أو الحاكم مثلاً: ظلمني فـلان بكذا، ومنها: طلب الفتوى، فيقول المستفتي للمفتي: فعل فـلان بي كذا، فهل هذا حق له أم لا؟ ومنها: تحذير المسلمين من أهل الشر والريب؛ كجرح المجروحين من الرواة والشهود، ومنها: الاستشارة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو مجاورته، ومنها: ذكر المجاهر بالفسق بما يجاهر به، ومنها: التعريف بالشخص إذا لم يقصد التنقص بأن يكـون معروفًا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم ونحوها. فتاوى اللجنة الدائمة ، رقم ( 10912 ) .

·       ليت المشاهير يتبنون بشكل دوري حملات لتطهير الألسن من الغيبة والنميمة جزاهم الله خيراً .

·       المشاهير لهم حياتهم الخاصة فلا يجوز التجسس عليهم ، ولا يجوز تتبع عيوبهم ومحاولة إثبات أنهم يخالفون ما يقولون في العلانية ، بل نقبل منهم الخير الذي يعلنونه وندعو لهم ونحسن بهم الظن . قال : إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ الناسِ ؛ أَفْسَدْتَهُمْ ، أوْ كِدْتَ أنْ تُفْسِدَهُمْ . رواه أبو داود وصححه الألباني ، أي ما دامت العيوب والأخطاء مستورة فيُرجى لأصحابها التوبة والرجوع ، أما تتبعها وفضحها فإنه يعين الشيطان على مرتكبيها ويجرؤهم على المجاهرة بها .

·       الخاطرة العابرة بسوء الظن بالآخرين لا يُلام عليها المؤمن ولا يتحكم بها ، لكنه يُلام على استقرار هذه الخاطرة وتصديقه لها بدون علامة حقيقية على صحتها ، ويحرم عليه التحقق بالتجسس ، فإن وجد دليلاً على التهمة فيجوز له سوء الظن ويبادر إلى نصح أخيه المسلم وإنقاذه من المنكر (موقع الاسلام سؤال وجواب ، رقم 112196) ، وإذا كانت التهمة تتعلق بضرر محتمل على المسلمين كبيع المخدرات وترويج الدعارة ، فيحيل الأمر إلى أهل الاختصاص .

·       التوبة من غيبة المؤمن وسوء الظن به تكون بالاستغفار والدعاء له بظهر الغيب ، ولا يلزم إخباره وطلب سماحه لأن الإخبار قد يغيظه ويزعجه وليس فيه فائدة ، وهذا هو اختيار الإمام ابن القيم وعدد من الأئمة رحمهم الله . (اسلام ويب رقم الفتوى: 231601)

 

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ (١٣)﴾  خلقناكم من آدم وحواء باعتبار الأصل ، فلا تفاضل بينكم في النسب ﴿وجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وقَبَآئِلَ لِتَعارَفُوۤاْ﴾  جعلكم شعوباً وقبائل وعائلات وأسر لحكمة التعارف ، فيعرف الفرد نسبه وأهله ليصلهم ويتعاون معهم على البر والتقوى وسداد الحقوق ؛ لا ليفخر بنسبه على غيره ، فإنه لا قيمة للحسب ولا للنسب إذا كان المرء هابطا في نفسه وفاسدا في سلوكه ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ أشدكم تقوى لله بفعل أوامره وترك نواهيه هو أكرمكم عنده، فالشرف والكمال فيما عليه الإنسان من زكاة روحه وسلامة خُلُقه وسداد رأيه وسعة علمه، خطب النبي صلى الله عليه وسلم في الناس يوم فتح مكة فقال:" أيها الناس إنّ الله قد أذهب عنكم عُبَيَّة الجاهلية (أي نخوتها وكبرها) وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بَرٌ تقي كريم على الله، وفاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب ثم قرأ الآية ﴿يٰأيُّها ٱلنّاسُ إنّا خَلَقْناكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنْثىٰ..﴾" رواه الترمذي. ﴿إنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ عليمٌ سبحانه بالظواهر والبواطن ، وخبير بكل ما عليه الخلق وبما يصلح أحوالهم ، فلنفوض له سبحانه التحليل والتحريم والأمر والنهي.

·       حدثني الشيخ د. عبدالله آل حكمة ، أن احد المثقفين الغربيين أسلم بسبب هذه الآية ، ويقول : يستحيل أن يكون محمدٌ (ﷺ) ألف القرآن من نفسه ويضع فيه هذا المعيار السماوي ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ لأن معايير الأفضلية التي يضعها ملوك البشر ترتبط بالدنيا وبمصالحهم .

·       من أراد أن يكون أكرم المشاهير فليكن أتقاهم لله .

·       مواقع الأسر والقبائل وحساباتهم على وسائل التواصل وسيلة محمودة للتعارف وصلة الرحم والتعاون في قضاء الديون وأداء الحقوق . قال ﷺ : تَعَلَّموا من أنسابِكم ما تَصِلُونَ به أرحامَكم ؛ فإن صلةَ الرحِمِ مَحَبَّةٌ في الأهلِ، مَثْرَاةٌ في المالِ، مَنْسَأَةٌ في الأَثَرِ . رواه الترمذي وصححه الألباني ، "مَحبَّةٌ في الأهْلِ" أي : سَببٌ للودِّ بين الأقاربِ، "مَثراةٌ في المالِ"، أي : سببٌ لكثرةِ المالِ "منسأةٌ في الأثَرِ" أي: سببٌ لتأخيرِ الأجَلِ وزِيادةِ العُمرِ، والبركةِ فيه .

·       في كل قومٍ سفهاء وعقلاء ، فالسفهاء يثيرون نخوة الجاهلية واحتقار الآخرين ، والعقلاء يأخذون على أيديهم ويردون سفاهتهم ويذكرونهم بخطورة الفخر الجاهلي على الدين والمجتمع . قال ﷺ : "بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ" . رواه مسلم ، أي يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، فهذا شرٌ عظيم .

 

في الآيات السابقة إرشادات سامية يحصل بها سلامة الصدر من الغل ، وهو نعيمٌ يتنعم به أهل الجنة ؛ ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونٍ ۝٤٥ ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَـٰمٍ ءَامِنِینَ ۝٤٦ وَنَزَعۡنَا مَا فِی صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَ ٰنًا عَلَىٰ سُرُرࣲ مُّتَقَـٰبِلِینَ ۝٤٧ لَا یَمَسُّهُمۡ فِیهَا نَصَبࣱ وَمَا هُم مِّنۡهَا بِمُخۡرَجِینَ ۝٤٨﴾ [الحجر ٤٥-٤٨]  ونزعنا ما في قلوبهم من حقد وعداوة، يعيشون في الجنة إخوانًا متحابين، يجلسون على أسرَّة عظيمة، تتقابل وجوههم تواصلًا وتحاببًا، لا يصيبهم فيها تعب ولا إعياء، وهم باقون فيها أبدًا. (التفسير الميسر) ، والتعبير "نزعنا" يفيد أن إزالته من الصدر ليس بالأمر الهيِّن ، فمن أراد أن يستعجل هذا النعيم في حياته الدنيا فليجاهد نفسه على اقتلاع الغل منها . جعلني الله وإياكم من الموفقين لذلك .

●●●

﴿۞ قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُوا۟ وَلَـٰكِن قُولُوۤا۟ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا یَدۡخُلِ ٱلۡإِیمَـٰنُ فِی قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا یَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَـٰلِكُمۡ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ ۝١٤﴾  

﴿قالَتِ ٱلأَعْرابُ آمَنّا﴾ أى: قالت الأعراب لك- أيها الرسول الكريم- آمنا وصدقنا بقلوبنا لكل ما جئت به، وامتثلنا لما تأمرنا به وتنهانا عنه. وهؤلاء جماعة من البادية من بني أسد وفدوا على رسول الله ﷺ بالمدينة بأولادهم ونسائهم في سنة مجدبة فادعوا الإيمان كذباً ونفاقاً أو أنهم ادعوا كمال الإيمان مع أنه لم يدخل قلوبهم بعد، وقالوا: قد جئناك بالأطفال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على رسول الله ، وهم يريدون الصدقة ويقولون أعطنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية تربية لهم وتعليما ﴿قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُوا۟ وَلَـٰكِن قُولُوۤا۟ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا یَدۡخُلِ ٱلۡإِیمَـٰنُ فِی قُلُوبِكُمۡۖ﴾ قل لهم : لَمْ تُؤْمِنُوا أى: لم تُصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية.. وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أى: ولكن قولوا نطقنا بكلمة الإسلام، واستسلمنا لما تدعونا إليه استسلاما ظاهريا طمعا في الغنائم، أو خوفا من القتل ، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم بعد، وسيدخل إن شاء الله. ثم أرشدهم- سبحانه- إلى ما يكمل إيمانهم فقال ﴿وَإِن تُطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ أيها الأعراب بتحقيق الإيمان والعمل بسائر التكاليف ﴿لَا یَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَـٰلِكُمۡ شَیۡـًٔاۚ﴾ أي لا ينقصكم الله تعالى من أجور أعمالكم الصالحة شيئا وإن قل. ﴿إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ﴾ ترغيب لهم في الإيمان الصادق والإسلام الصحيح، فتوبوا إليه واصدقوه يغفر لكم ويرحمكم.

وفي الآية بيان الفرق بين الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في نص واحد، فالإيمان هو أعمال القلوب الباطنة ، والإسلام هو أعمال الجوارح الظاهرة ، وإذا أُطلقا منفردين فالإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان.

·       "الإيمان في القلب" شعارٌ اتخذه البعض لتبرير ارتكاب المنهيات (كحلق اللحية والإسبال وتبرج النساء وسماع الأغاني والمعازف ومشاهدة الصور المحرمة) والتقصير في المأمورات (كالصلاة مع الجماعة) ، وفي هذه الآية الكريمة معيار صدق دعوى الإيمان ﴿وَإِن تُطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ .

·       حين رد الله سبحانه دعوى الإيمان الكاذبة ، أرشد أصحابها إلى كيفية تصحيح الدعوى وتقويم الاعوجاج بتوجيههم لطاعة الله ورسوله والتزام التكاليف الشرعية ثم شجعهم ورغبهم للتصحيح ببيان مغفرة الله للخطأ ورحمته بالمخطئ إذا رجع للصواب ، فما أجمل أن نتحلى بهذا المنهج القرآني عند نقد الأخطاء ، فنرشد المخطئ إلى الصواب وكيفية إدراكه ، ونشجعه عليه . 

 

﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمۡ یَرۡتَابُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ ۝١٥﴾  

 يعرفهم تعالى بالإيمان الصحيح، فالمؤمنون حقا وصدقا الذين آمنوا بالله ربّاً ورسوله نبيا مطاعا، ثم لم يرتابوا، أي لم يشكوا أبدا في صحة ما آمنوا به، وجاهدوا أنفسهم فألزموها بالتكاليف الشرعية في المنشط والمكره، كما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم أعداء الإسلام من المشركين والكافرين طلباً لرضا الله سبحانه وتعالى وإعلاءً لكلمته لا لغرض مادي ودنيوي. هؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان.

·       وسائل التواصل ميدان رحب لجهاد أعداء الإسلام باللسان والقلم والصورة ، قال : "جَاهِدُوْا المشركينَ بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" رواه أبو داود والنسائي ، وصححه الألباني . وكي تتحقق الغاية من جهاد القلم والصورة فلا بد من صحة المحتوى وجودة الأسلوب ، وهذا يكون بدراسة الموضوع ومراجعة ما يكتبه ويقوله أهل العلم والخبرة والاختصاص قبل النشر .

·       سئل الإمام ابن باز رحمه الله عن أيهما أفضل مجاهدة النفس بترك المعاصي أو مجاهدة أعداء الله بالمال والنفس ؟ فقال : الواجب الجهادان: جهاد النفس عن المعاصي، وجهاد الأعداء بالمال والنفس، لكن إذا لم يحصل هذا فجهاد الكفار بالنفس والمال أعظم من جهاد النفس بالمعاصي. وجهاد الكفار من أسباب هداية الله له، وتوفيق الله له، حتى يدع المعاصي؛ لأنَّ المعاصي مما يُعين الأعداء، ومما يُسبب ضعف النفس عن الجهاد، فإذا منَّ الله عليه بترك المعاصي صار هذا أعظم في الجهاد، وأكبر في الجهاد، وأنفع للجهاد. فجهاد الكفار مع المسلمين، والتعاون مع المسلمين -ولو كانت عنده معصية- أوجب، فليس من شرط المجاهد أن يكون تقيًّا نقيًّا، لا، يُجاهد ولو كانت عنده معاصٍ، يُجاهد مع  إخوانه بنفسه وماله، لكن إذا رزقه الله الجهادَ لنفسه في ترك المعاصي مع جهاد الكفار؛ كان هذا أكمل، وهو واجبٌ عليه، وفرضٌ عليه. فعليه أن يُجاهد هذا وهذا: أن يُجاهد النفس في ترك المعاصي، ويُجاهد أعداء الله بنفسه وماله وقلمه، فالجهاد بالقلم جهادٌ عظيمٌ، يقول النبيُّ ﷺ: جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم رواه النسائي وأحمد وجماعة بإسنادٍ صحيحٍ. (موقع الإمام ابن باز)

 

﴿قُلۡ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِینِكُمۡ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ ۝١٦﴾  

 قل يا رسولنا لأولئك الأعراب: أتعلِّمون الله بدينكم أي بإيمانكم وطاعتكم وتخبرونه بهما ؟ وهو سبحانه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم ؟! هذا مظهر من مظاهر جهلكم بالله تعالى.

 

﴿یَمُنُّونَ عَلَیۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُوا۟ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا۟ عَلَیَّ إِسۡلَـٰمَكُمۖ بَلِ ٱللَّهُ یَمُنُّ عَلَیۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِیمَـٰنِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ۝١٧﴾  

 أي يمّن أولئك الأعراب عليك يا رسولنا بإسلامهم ، إذ قالوا : آمنا بك ولم نقاتلك كما فعل غيرنا، قل لهم: لا تَمُنُّوا عليَّ دخولكم في الإسلام؛ فإنَّ نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم أنْ وفقكم للإيمان به وبرسوله، إن كنتم صادقين في إيمانكم. وهذه الآيات في بعض الأعراب وليست عامة، فمن الأعراب من يؤمن حقاً وصدقاً بالله واليوم الآخر.

·       الإيمان بالله أعظم نعمة امتن الله بها علينا فهي سبب دخول الجنة والنجاة من النار، وإذا لم نشكر الله عليها فهي مهددة بالزوال أو النقص . والتوفيق لأعمال الخير والبر نعمة أخرى يزداد بها المؤمن رفعة في درجات الجنة ، والملاحظ تركيز أكثر المشاهير على نعم الأمن والمأوى والرغد ، ويغفلون عن نعمة الإسلام والإيمان والتوفيق للعمل الصالح ، فلنحرص جميعاً على تذكير بعضنا البعض بها .

 

﴿إِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ غَیۡبَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ۝١٨﴾  

 أي يعلم سبحانه كل ما غاب في السماوات وما غاب في الأرض من سانح في السماء وسابح في الماء وسارح في الغبراء فليس في حاجة أن تعلموه بدينكم، والله بصير بما تعملون من عمل قلَّ أو كثر خفي أو ظهر.

·       إذا كان مشاهير الغرب يصطحبون المصورين أثناء زيارتهم للفقراء واللاجئين والمؤسسات الخيرية دعاية لأنفسهم ، وظهوراً بمظهر الإنسانية ، فالذي نراه في كثير من مشاهير المسلمين - ولله الحمد - أنهم يصطحبوا النية الصالحة ، ويكون توثيقهم وتصويرهم دعايةً للمؤسسات الخيرية ودعماً لأعمال البر لا لأنفسهم .

●●●

 

اللهم ارزقنا الهداية والسداد ، واجعل ما نقول ونعمل خالصاً لوجهك الكريم صواباً على سنة رسولك الأمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

 

وكتبه : د. أحمد بن عبدالرحمن بن حماد العمر

الرياض  22  رمضان  1442 ه

 

المراجع :

أيسر التفاسير ، وحاشيته (النهر الجاري) لأبي بكر الجزائري رحمه الله

التفسير الوسيط لسيد طنطاوي

مواقع : الباحث القرآني / الدرر السنية/الإسلام سؤال وجواب/إسلام ويب/مقالات باللغة الإنجليزية عن علم نفس الشهرة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طريق الطمأنينة .. كيف يتجاوز المؤمن ألم الهموم والمصائب

تأملات في الحكمة من ابتلاء الأطفال بالأمراض

وأعفيت لحيتي